د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
يقول وزير المالية التركي الجديد محمد شيمشك بشكل علني واضح وحاسم إنه لا فرصة أخرى لتركيا سوى العودة للواقعية وتبني القواعد المعروفة والمعتمدة عالميا في سياستها الاقتصادية. وأعلن البنك المركزي التركي للمرة الثانية وخلال أشهر قليلة فقط، رفع سعر الفائدة البنكية باتجاه مغاير للسياسات المعتمدة في السابق. وهي خطوة ضرورية كما يراها شيمشك على طريق خططه الاقتصادية والمالية الإصلاحية لإخراج البلاد من أزمتها.
صحيح أن قرارات التغيير في السياسات الاقتصادية جاءت متأخرة، لكن قيادات العدالة والتنمية سبقت مثل هذه الخطوات بعامين تقريبا لناحية مراجعة مواقفها وسياستها الخارجية المنفتحة والمتوازنة واعتماد نهج جديد في العلاقة مع دول الإقليم. الهدف اليوم هو توحيد كلا المسارين السياسي والاقتصادي لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل أعوام وجولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخليجية الأخيرة التي شملت السعودية وقطر والإمارات تندرج في هذا الإطار.
ما الذي يبحث عنه الرئيس التركي في الخليج هذه المرة؟ وما الذي تنتظره وتريده السعودية وقطر والإمارات التي زارها أردوغان؟ وما هي القيمة الاستراتيجية لهذه الجولة بالنسبة للجانبين؟ وكيف سيكون شكل العلاقة بعد هذا الكم الهائل من العقود والاتفاقيات المتعددة الجوانب بين تركيا والدول الثلاث التي قصدها أردوغان في جولة قصيرة وخاطفة وسريعة؟
يقول أردوغان: "سنعزز تعاوننا مع دول الخليج عبر مشاريع ملموسة في الفترة المقبلة". الاقتصاد قد يكون هو المعني خصوصا بالنسبة لتركيا في هذه الآونة. لكن الأجواء والمواقف وما هو معلن حتى الآن يقول إنه يمكن قراءة توقيت ودوافع ونتائج الجولة من جوانب عديدة. المؤشر الأهم هو رسائل الانفتاح والتقارب في المواقف السياسية بشأن القضايا الإقليمية. فجولة أردوغان تهدف أيضا إلى الانتقال بالعلاقات من مرحلة التهدئة والمصالحة والتطبيع إلى التنسيق والتعاون الاستراتيجي بما يخدم مصالح الدول الأربع والمحيط الإقليمي.
مساومة الغرب على الأمن والسياسة ومساومة الشرق على الاقتصاد والتجارة في لعبة التوازنات التركية الإقليمية تتغير على ضوء ما رأيناه وسمعناه في جدة والدوحة وأبو ظبي. كانت المقايضات في العلاقة التركية الغربية كما شهدنا في قمة الناتو قبل أسبوعين جيو عسكرية البعد كما هي العادة. في العلاقة والحوار التركي مع دول المنطقة، كانت الأمور تسير منذ عقود تحت مظلة المصالح الاقتصادية والتجارية أكثر. جولة أردوغان الخليجية قلبت هذه المعادلات والتوازنات الكلاسيكية المعتمدة. الشرق الأوسط والخليج وشمال أفريقيا بات جزءا من تحرك جيو استراتيجي تركي عربي مغاير سيكتمل عند التطبيع التركي المصري وإنهاء الخلافات التركية العراقية وحسم الأمور في ليبيا.
المعادلة التي رفعها أردوغان في الطريق إلى ليتوانيا قبل أسابيع "أعطونا العضوية الأوروبية وخذوا السويد إلى الناتو" يعرف هو أكثر من غيره استحالة قبولها وتطبيقها في لعبة التوازنات الإقليمية القائمة بين تركيا والغرب. رسالة أردوغان كانت باتجاه العالم العربي ودول المنطقة أكثر مما قد يكون هدفها دعوة العواصم الغربية لإعطاء أنقرة ما تريد. لن تتخلى تركيا عن حماية مصالحها مع الغرب حتما، لكنها تقول إن الخليج قادر اليوم على ملء الفراغ الذي تعاني منه سياسيا واقتصاديا مع الغرب الأميركي والأوروبي، وقد تلعب هذه العواصم دور جسر التوازن الإقليمي في ملفات كثيرة تعني تركيا في علاقاتها مع الشرق والغرب. المفتاح والقفل بيد القيادات التركية الخليجية هذه المرة بعكس لعبة التوازنات القديمة التي كان الغرب يتحكم بها ويحاول توجيهها لعقود طويلة. حجم التعاون التجاري الخليجي مع الصين والهند وروسيا واليابان والدول الآسيوية الأخرى بات معيارا حقيقيا يسهل مثل هذه القراءات والمراجعات. وتركيا ترصد كل ذلك عن كثب.
كان الحديث يدور في الداخل التركي عن اتفاقيات تجارية قد تصل إلى 25 مليار دولار مع الدول الثلاث، لكن أردوغان رجع كما يبدو وفي جعبته نحو 100 مليار دولار من العقود والصفقات. جولة شهدت الكثير من صور المصافحة والعناق لكن المهم أيضا كان قرارات التنسيق والتعاون السياسي والأمني الذي يعيد البوصلة إلى مسارها الصحيح بعد أكثر من انتكاسة واختبار مؤلم ومكلف. 5 اتفاقيات رئيسية مع الرياض فيها التجاري والصناعي والعسكري والاستثماري البعيد المدى، وأهمها صفقة المسيرات التركية للرياض. والمزيد من الصفقات التجارية والمالية ومشاريع الاستثمار مع قطر التي ستقود إلى رفع أرقام التعاون الاستراتيجي بين البلدين. اللاعب القطري كان دائما الشريك الذي فتح أبوابه منذ أكثر من عقد بشكل واسع أمام الاقتصاد والاستثمارات التركية في مجال المقاولات وقطاع البناء. ثم 13 اتفاقية استراتيجية البعد مع الإمارات بقيمة 50 مليار دولار واكبها قرار إنشاء مجلس استراتيجي رفيع المستوى لتحصين العلاقات بعد تحسينها. قرار منح أردوغان أحد أهم الأوسمة الوطنية الإماراتية بحد ذاته مؤشر على حجم التحول الحاصل في العلاقات بين البلدين بهذه السرعة والحماس.
قناعة القيادات السياسية التركية في العامين الأخيرين بأهمية وفوائد تصفير المشكلات مجددا مع دول المنطقة بعد سنوات من الخصومة والقطيعة، وضرورة تجيير هذه الفرص إلى مكاسب عبر شراكات استراتيجية براغماتية شاملة، ستكون كفيلة حتما بفتح الأبواب أمام منظومة علاقات جديدة بين تركيا والدول العربية. فالدول الأربع تحديدا باتت اليوم تملك منظومة علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية إقليمية منفتحة على أكثر من لاعب دولي بفضل طاقاتها وقدراتها وتجاربها وشبكة العلاقات التي بنتها.
قد تكون العلاقات الجديدة بين تركيا والعواصم الخليجية تسير في هذه المرحلة تحت تأثير المحرك الاقتصادي. لكن تبديل أنقرة لسياستها الإقليمية والعربية تحديدا كان له أثر كبير في الوصول إلى هذه النتائج التي نحصيها اليوم. وقد تكون الأولوية لمشاريع الاستثمار والعقود الاقتصادية والتجارية الطويلة الأمد والاستراتيجية البعد، لكن هدف اللمسات الأخيرة التي أضافتها القيادات السياسية التركية والخليجية على مسار العلاقات بين الجانبين هو إعلان معادلة جديدة في الحوار عنوانها العودة إلى الاعتدال. اللغة والنبرة الجديدة تقولان إن تعديل السياسات ضروري لمواصلة طريق الاعتدال. وإن الهدف لا بد أن يكون قطع الطريق على تعثر أو أزمات تقع وتطيح بما أنجز حتى اليوم.
سيسعد الأتراك حتما الترويج للمزيد من منتجاتهم وبيعها في الأسواق الخليجية. ويفرحهم أكثر أن يروا حصيلة استثمارات مشتركة في إنتاج السيارة التركية "توغ"، وخطط بعيدة المدى في مشروع قناة إسطنبول الذي وعد أردوغان بإعادة تفعيله وتحريكه بعد االانتخابات، وبرامج استثمار مشترك في قطاع الطاقة وخطوط نقل البضائع بين دول المنطقة والقارات. حزام السلام الإقليمي الذي يتحدث أردوغان عنه منذ فترة سيتقدم خطوة أخرى في الاتجاه الصحيح، لكنه لن يعطي أنقرة ما تريده إلا بعد إتمام المراجعة السياسية الكاملة لسياستها العربية وإنهاء خلافاتها مع القاهرة وبغداد بأسرع ما يكون.
تقول بيانات جامعة الدول العربية قبل أعوام إن هناك العديد من الملفات الإقليمية المتداخلة والمتشابكة في العلاقات التركية العربية والتركية الخليجية تحديدا تنتظر المزيد من الحراك لمعالجة ما تبقى من أزمات وإزاحة ما تراكم من رواسب. إنجاز التطبيع التركي المصري وسياسة تركيا في ليبيا وسوريا والعراق لا بد أن تكون كلها على طاولة الأولويات.
من الذي سيدفع ثمن التقارب التركي الخليجي؟ سؤال سيبقى على طاولة النقاش طبعا. لكن السؤال الآخر الذي لا يقل عنه قيمة وأهمية وينتظر الإجابة حتما هو ارتدادات كل ذلك على المشهد السوري وهل سيكون لكل صور المصافحة والعناق التي تابعناها انعكاساتها الإيجابية على ملف الأزمة في سوريا؟ وكيف يمكن أن تتعاون أنقرة مع الأطراف الثلاثة في سوريا حيث تتباعد الرؤى في مكان وتتقارب في مكان آخر هناك؟ وكيف سيكون شكل الحوار التركي الخليجي في التعامل مع الملف باتجاه التحضير لإنضاج تسوية سياسية قريبة؟ وهل سيبقى قرار انفتاح بعض العواصم العربية على النظام في دمشق المعيار خلال طرح ومناقشة سيناريوهات الحل بين الدول الأربع؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس