سعيد الحاج - الجزيرة
بات رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أحد أبرز الأسماء في المعارضة السياسية في تركيا، خصوصاً وأنه تزعم في الآونة الأخيرة تياراً معارضاً لزعيم المعارضة في البلاد داخل حزبه الشعب الجمهوري، دون أن يملك – حتى اللحظة – فرصة حقيقية لتحقيق طموحه الذي بات معلناً.
قصة صعود
حتى 2019، لم يكن أكرم إمام أوغلو شخصية معروفة على نطاق واسع في تركيا التي تعرف حياة سياسية وحزبية نشطة. فقد كان الرجل رئيساً لبلدية أحد أحياء إسطنبول عن حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة دون أن يعرف عنه منصب رفيع فيه.
ويبدو أن أداءه الجيد في إدارة البلدية الفرعية في المدينة الأكبر في البلاد إضافة لعدم اشتهاره بالعداء مع التيار المحافظ كانا من ضمن المعايير التي دفعت رئيس الحزب كمال كليجدار أوغلو لاختياره مرشحاً لبدية إسطنبول الكبرى. فقد كان الأخير مهتماً بتغيير النظرة النمطية عن حزبه بأنه معاد للمحافظين والإسلاميين فضلاً عن الدين نفسه، كما كان يرغب في كسب أصوات بعض المحافظين والقوميين ولذلك اختار مرشحَيْ بلديتي أنقرة وإسطنبول تحديداً من خارج التيار الكمالي التقليدي في الحزب، وقد فازا في الانتخابات بدعم من تحالف الشعب المعارض فضلاً عن دعم حزب الشعوب الديمقراطي “الكردي” لإمام أوغلو تحديداً.
وإضافة إلى وقوف عدة أحزاب خلفه بحيث كان بمثابة المرشح التوافقي للمعارضة لبلدية إسطنبول، فقد لعبت عوامل أخرى لصالح وأمنت له الفوز بالبلدية الأهم في البلاد، في مقدمتها عوامل مرتبطة بحزب العدالة والتنمية مثل طول فترة الحكم وتململ جزء من حاضنته الشعبية والأوضاع الاقتصادية وسوء اختيار المرشح المنافس، فضلاً عن حملته الانتخابية التي ركزت على الشباب ووسائل التواصل الاجتماعي وأعطت عنه انطباعات إيجابية.
كما أن إصرار العدالة والتنمية على الطعن بالنتيجة والمطالبة بإعادة انتخابات إسطنبول منحت الرجل صفة “المظلومية” التي يوليها الشعب التركي أهمية خاصة، ولذلك فقد فاز في الإعادة بفارق مئات آلاف الأصوات عن مرشح الحزب الحاكم، كما أن ذلك جعله شخصية سياسية معروفة جداً منذ البدايات.
وفي المحصلة، فقد فاز إمام أوغلو بما هو أهم من بلدية إسطنبول الكبرى، على أهميتها ووزنها، وهو رمزية أن يكون “من انتصر على العدالة والتنمية” بعد ربع قرن وهزائم متلاحقة.
الطموح والمعيقات
ساعدت رمزيتا الفوز والمظلومية إمام أوغلو كثيراً في الظهور والانتشار، ويمكن القول بدون مبالغة إن العدالة والتنمية قد خسر الانتخابات بسلسلة من القرارات الخاطئة أكثر مما فاز هو، أي إن العوامل المرتبطة بالحزب الحاكم كانت أثقل في ميزان الفوز من تلك المرتبطة به كمرشح بشكل مباشر.
منذ البدايات، ركز الرجل على السياسة الداخلية بشكل كبير طغى في عدد من المحطات على منصبه وعمله كرئيس بلدية. وعلى عكس رئيس بلدية أنقرة الكبرى منصور يافاش، فقد دخل في كثير من المناكفات السياسية مع الرئيس والحكومة والحزب الحاكم.
انخرط إمام أوغلو في السياسة بشكل ملحوظ، أولاً كرئيس بلدية من المعارضة في مواجهة الحكومة، ثم كمرشح محتمل للانتخابات الرئاسية حيث كان الحزب الجيد (ثاني أحزاب المعارضة) يفضله على غيره، ثم أخيراً في مشهد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة حين كان بمثابة الناطق باسم حملة كليجدارأوغلو للرئاسة بالتشارك مع رئيس بلدية أنقرة.
من البداية يتركز طموح إمام أوغلو على الوصول للرئاسة في مسار يكرر تجربة أردوغان من رئاسة بلدية إسطنبول للقصر الرئاسي، لا سيما وأنه حرص على تقديم نفسه في إطار مشهد المظلومية الذي كان أردوغان قد عانى منه، أولاً بقرار إعادة انتخابات إسطنبول ولاحقاً بقرار المحكمة الذي أدانه بتهمة إهانة القضاء وهو ما يمكن أن يؤثر على فرصه المستقبلية. ولذلك يكاد إمام أغلو يكرر أكثر من أردوغان قول الأخير الشهير بأن “من يكسب إسطنبول يكسب تركيا” والعكس بالعكس.
فرضَ كلجدارأوغلو نفسه مرشحاً توافقياً للمعارضة بما يملكه من صلاحيات كرئيس للحزب، فتبدلت استراتيجية إمام أوغلو – اضطراراً – من الترشح الآن للترشح مستقبلاً، مع محاولة قطف ثمار نتائج الانتخابات لصالحه أياً كانت. ولذلك فقد كانت خسارة كليجدارأوغلو الانتخابات الرئاسية (وفشل المعارضة في الفوز بأغلبية البرلمان) القشة التي قصمت العلاقة بينهما وأظهرت الخلافات للعلن، لا سيما وأن الانتخابات الأخيرة شهدت رفعاً لافتاً لسقف المعارضة ووعوداً غير مسبوقة بالفوز وإدارة البلاد.
وعليه، واجه زعيم المعارضة معارضة داخل حزبه لم يشهد مثلها سابقاً، حيث تشكل ضده تيار واسع يطالب بالتغيير يتشكل من قيادات سابقة وحالية قادها إمام أوغلو نفسه. وبذلك أظهر الأخير رغبته بخلافة كليجدار أوغلو في رئاسة حزب المعارضة الأكبر في البلاد تحت شعار “ينبغي ألا يخسر الشعب الجمهوري بعد الآن، وألا نرضى بالمرتبة الثانية بين أحزاب البلاد” وفق تعبيره.
كان ثمة تناقض فاقع بين كليجدارأوغلو وإمام أوغلو يركز عليه الأخير ضمناً وتلميحاً؛ الشاب الممتلئ حيوية وطموحاً مقابل الرجل المتقدم في السن (كليجدارأوغلو في الـ 75 من عمره)، والوحيد الذي “هزم أردوغان والعدالة والتنمية” مقابل من خسر مقابلهما 12 مرة متتالية بدون أي نصر.
ولذلك، كانت تقديرات إمام أوغلو بأن هذا التيار الواسع من المطالبين بالتغيير والتجديد قادر على الضغط على كليجدار أوغلو ليتحمل مسؤولية الخسارة ويستقيل، لكنه اصطدم مرة أخرى بالصلاحيات التي يملكها الأخير وفق قانون الأحزاب وهو ما مكّنه من الصمود في منصب الرئيس وكذلك تصفية بعض المحسوبين على المعارضة الداخلية في اللجنة المركزية للحزب – وخصوصاً إمام أوغلو – تحت شعار التغيير.
سياسياً، حمّل رئيسُ بلدية إسطنبول رئيسَ حزبه علناً مسؤولية الخسارة في الانتخابات الأخيرة وضمناً مسؤولية أي خسارة مستقبلية في حال الإصرار على رفض التغيير. في المقابل، حمّله كليجدارأوغلو مسؤولية الخسارة المحتملة لبلدية إسطنبول في حال حصلت بسبب الانشغال عن البلدية بالسياسة واتهمه ضمناً بالسعي لمجده الشخصي ولو على حساب الحزب.
يتمثل طموح الرجل بالوصول لمنصب رئاسة البلاد، ولكنه أدرك أن قانون الأحزاب منعه من الترشح بما يمنحه من صلاحيات لرئيس الحزب، بمعنى أن ترشحه للرئاسة مستقبلاً مرهون بكونه رئيساً للحزب إذ لا يضمن موقف أي رئيس مستقبلي للحزب، بمعنى أن رئاسته لحزب الشعب الجمهوري مجرد محطة مرحلية للوصول للترشح للرئاسة.
ولكن، ومع صمود كليجدارأوغلو في رئاسة الحزب مع إشارات ضمنية على احتمال عدم ترشحه في المؤتمر القادم للحزب في الخريف المقبل، بدّل إمام أوغلو استراتيجيته مجدداً وأعلن عن “انطلاقه لخدمة إسطنبول مجدداً” بما يعني استعداده للترشح لرئاسة البلدية في الانتخابات المحلية المقبلة وعدم منافسته على رئاسة الحزب.
وهكذا يكون الرجل قد أجّل المعركة على رئاسة الحزب بانتظار المؤتمر العام في الخريف أو الانتخابات المحلية نهاية آذار/مارس المقبل، ملمحاً لدعمه لرئيس الكتلة البرلمانية للحزب أوزغور أوزال كمرشح لرئاسة الحزب، وهو القيادي المقرب من كليجدارأوغلو قبل أن ينضم للتيار المعارض له. وهكذا، يبعد إمام أوغلو نفسه عن الاتهامات بالبحث عن مجده الشخصي، وسيحاول إقناع الحزب الجيد بدعمه في الانتخابات المحلية المقبلة بغض النظر عن شكل المعارضة وفرص تحالفها، ويجنب نفسه أي لوم بخصوص نتائج الانتخابات والتي يمكن في حال الخسارة تحميل مسؤوليتها لكليجدارأوغلو نفسه – كرئيس للحزب – مرة أخرى.
وعليه، يبقى طموح الرجل، الذي فاز وذاع صيته بدون جهد كبير منه أحياناً، مؤجلاً في المرحلة الحالية حيث اصطدم أكثر من مرة بأوراق القوة التي يمنحها قانون الأحزاب لرئيسه ومنافسه في الآن ذاته. يبقى الطموح إذن مؤجلاً بانتظار معركة المؤتمر العام و/أو معركة الانتخابات المحلية المقبلة، على أمل أن يستطيع الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في 2028، وحتى ذلك الحين ينظر الرجل لأوزغور أوزال كمحطة انتقالية بغض النظر عما اتفقا عليه علناً أو سراً، أو بالأحرى بغض النظر عما إذا كان تحالفهما سيدوم أم سيتحول بدوره إلى منافسة وخصومة قريباً.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس