توران قشلاقجي - القدس العربي
يعاني الأتراك والعرب، على حد سواء، مشكلة كبيرة في عدم معرفة طباع بعضهم بعضا بشكل جيد، رغم العيش المشترك الذي دام بين القومين أكثر من ألف عام تحت مظلة الإسلام. ولم يكن القومان غريبين على بعضهما بعضا، كما هو الوضع في يومنا الحالي. والسبب الكامن وراء ذلك بسيط للغاية، وهو أن تاريخهما كُتب على يد القوى الغربية قبل قرن من الزمان، ولا يزال كل منهما يعرف الآخر بما كتبه البريطانيون والفرنسيون عنهما.
بعض العنصريين في تركيا يصفون العرب بأنهم قوم غدروا بالأتراك خلال الحرب العالمية الأولى، ويفترون على العرب وكأنهم لم يحكموهم طيلة 500 عام، وكأن الجيش العثماني لم يكن يضم جنودا من العرب. وفي المقابل، يقول بعض العنصريين العرب إن الأتراك استعمروا العرب لمدة 500 عام، ويخلقون تصورا بأنهم لم يقاتلوا مع الدولة العثمانية ضد المستعمرين البرتغاليين والإسبان والبريطانيين والفرنسيين، خاصة الصليبيين، طيلة تلك الفترة.
التصورات التي خلقها العنصريون تجاوزت الحدود في الفترة الأخيرة، لدرجة أنها جعلت المواطن التركي العادي ينظر إلى العربي على أنه شخص يعيش في الصحراء، والمواطن العربي يرى الأتراك وحوشا وبرابرة وأحفاد جنكيز خان، أو المغول. وتظهر لنا هذه التصورات أن بذور الفتنة التي زرعتها القوى الغربية قبل 200 عام، نمت بالفعل في هذه المنطقة. ولم يتم القيام بأي عمل ملموس لتحطيمها أو محوها، لا سياسياً ولا ثقافياً ولا تاريخياً ولا أكاديمياً، ولا حتى اجتماعياً. هذا العقل الباطن الشرير هو السبب الرئيسي وراء انتشار العنصرية على يد حفنة من المهرجين على وسائل التواصل الاجتماعي، بسرعة كبيرة في هذه الأيام. فبينما يمارس الغربيون عمليات ضد هذه المنطقة وشعوبها، حتى بعد مرور قرن، نرى أبناء الأتراك والعرب يتناوشون العداوة في ما بينهم. أصبحنا جميعا نعرف من سيكون الطرف المنتصر، لكن للأسف، لا نستطيع أن نرى أن هذه التصورات سوف تجعلنا نخسر قرنا آخر من الزمن، ألا تعتقدون أن الوقت قد حان لكي نتصدى لهذا الأمر؟!
منذ السنوات الأولى للجمهورية التركية، قام العقل السياسي والفكري الذي بنى الدولة القومية الجديدة بمفاهيم الجمهورية الفرنسية الثالثة بإظهار الإسلام على أنه دين فرضه العرب على الأتراك، لأن الجمهورية التركية الحديثة التي تأسست على أنقاض الدولة العثمانية قبل قرن من الزمان، أرادت بناء مجتمع وفق منظور العلمانية الإقصائية المحاربة للدين والقومية الانتقامية والروح الوضعية التي ألحت الجمهورية الفرنسية الثالثة على نشرها حول العالم. كما أن العالم العربي ونظرة العرب بنيت على المفاهيم التي أنتجتها هذه اليعقوبية الفرنسية. ولهذا السبب تم تغيير الحروف العربية إلى حروف لاتينية، والتخلص من الحروف العربية التي انتقلت إلى اللغة التركية، ورفع الأذان باللغة التركية، ومنع النسخة العربية من القرآن الكريم والتشجيع على تلاوته باللغة التركية، ونشر دعاية مفادها أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كان تركيا، بل تم الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك عبر إظهار العرب على أنهم أناس عدوانيين وأطلقوا عليهم صفات غير لائقة. وبالطبع، كانت هناك ممارسات مشابهة قام بها العنصريون العرب ضد الأتراك. يقول أحمد جودت باشا أحد رجال الدولة والمفكرين المشهورين في الدولة العثمانية، في كتابه «تذاكر» أنه لا العرب يعرفون الأتراك ولا الأتراك يعرفون العرب جيدا. وأعتقد أن هذا من الأسباب التي جعلت الأتراك يقولون عندما تزداد مسألة ما لديهم تعقيدا: «لقد أصبحت مثل شَعر العرب». لأن العربي في نظر التركي شخص أسود وشعره مجعد. ولكن في الواقع هذا ليس صحيحا. بذور الفتنة هذه تضاءلت قليلا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا قبل 22 عاما، لكنها لم تنته بالكامل. لأن كل الأسباب التاريخية والفكرية والسياسية والاجتماعية التي تغذي بذور الفتنة هذه ظلت قائمة. ولا شك في أن التصور الذي تشكل قبل 200 عام من خلال الجامعات والكليات البريطانية والفرنسية والأمريكية لا يزال مستمراً حتى اليوم. ونرى جميعا كيف أن تلك القوى تملك حتى هذا اليوم أفضل الجامعات في منطقتنا، وأن كتبها هي التي تدرس لأجيالنا في الجامعات التي قمنا نحن بإنشائها.
خلاصة الكلام، لا بد من اتخاذ إجراءات فورية وعاجلة من أجل تصحيح هذا الوضع المتفاقم، والذي يزداد ابتذالاً وسفاهة يوما بعد يوم في وسائل التواصل الاجتماعي. ألم يحن الوقت لكتابة مؤلفات تاريخية يتم تدريسها في الجامعات العربية والتركية بشكل مشترك؟ ألم يحن الوقت لبناء مراكز ثقافية متبادلة؟ ألا تزعجكم سخرية الغربيين منا؟ ألن يتمكن سكان منطقتي الذين عاشوا في أجواء من الوئام لآلاف السنين من إنشاء مناخ يسوده السلام مثل الذي أنشأه الغرب في أوروبا، على الرغم من الصراع الذي دام بين مكوناتها آلاف السنين. هل نحن أغبياء وجاهلون إلى هذا الحد؟! إنني أوجه ندائي إلى السياسيين والمثقفين واليساريين والليبراليين والعلمانيين والإسلاميين في منطقتنا: «لقد طفح الكيل». دعونا نعيد بناء مدننا القائمة على العدل والرحمة من جديد.. إن محو هذا التصور السيئ يعتبر بمثابة دين على عاتق قادة ومثقفي دول الخليج وفي مقدمتها قطر والكويت وتركيا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس