ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر
مما لا شك فيه أن المقاومة والنضال الاستثنائيين لشعب غزة ضد التحالف الصهيوني الصليبي المحتل الذي يقوم بإبادة جماعية لأهالي غزة، هو حدث يعيد صياغة التاريخ في كثير من النواحي. كما أن عملية طوفان الأقصى التي تمثل هذه المرحلة الجديدة من المقاومة التي بدأت بالفعل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تلك العملية تأتي على كل عاداتنا، وتذهب بكل ما حفظناه، وتؤثر على أفكارنا وضمائرنا، لتفكك النظريات الفلسفية وشكل خطابها الذي يبدو منظمًا.
وهنا من الضروري أن نُذكِّر بالمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي نعيش هذه الأيام الذكرى العشرين لوفاته. ففي عالم الفكر الغربي بأكمله، يمثل سعيد اسمًا من المفيد للجميع هذه الأيام أن يتذكَّره مرة أخرى ويعيد قراءة كتاباته قبل الإدلاء بالشهادة على ما يدور من أحداث.
وفي الواقع فقد تعرف الرأي العام العالمي على سعيد من خلال كتابه “الاستشراق” الذي نشره عام 1978م، والذي كان له قصب السبق في مجاله والعديد من المجالات الأخرى. وقبل ترجمة العمل إلى اللغة التركية ونشره من قِبَل دار بينار للنشر والتوزيع عام 1982م، نشرت صحيفة يني دَوِير مقالًا طويلًا عن الاستشراق بقلم جميل ميراتش. وإذا لم تخنِّ ذاكرتي، فقد تم إعادة نشر المقال لاحقًا ضمن كتاب بعنوان “من الثقافة إلى الحكمة”.
وقد سمعت لأول مرة عن إدوارد سعيد من خلال هذا المقال في صحيفة يني دَوِير، التي كنت أتابعها بانتظام عندما كنت طالبًا في مدرسة الأئمة والخطباء الثانوية.
وبعد وقت قصير جدًّا، صدرت النسخة التركية من كتابه “الاستشراق”، وكما نَقل عنه جميل ميراتش، قال سعيد “الشرق جزء لا يتجزأ من الحضارة المادية والثقافة الأوروبية”.
والاستشراق يعبّر عن هذا ويمثّله ثقافيًّا، بل وفكريًّا باعتباره أسلوبا للخطاب، أي للتفكير والكلام، تدعمه مؤسسات ومفردات وبحوث علمية وصور ومذاهب فكرية، بل وبيروقراطيات وأساليب استعمارية. وكل من يعمل بالتدريس أو الكتابة أو البحث في موضوعات خاصة بالشرق فهو مستشرق، سواء أكان ذلك في مجال الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) أو علم الاجتماع أو التاريخ أو اللغة، وسواء أكان ذلك متصلا بجوانب الشرق العامة أو الخاصة.
ومع نهاية القرن الثامن عشر، صار الاستشراق متمثلا في كل المؤسسات، والبيانات الصادرة، والمواقف المعتمدة، ودراسات المقارنة التي تم إجراؤها، وجانبًا من العقيدة، وأسلوب الإدارة، أو شكل من أشكال الحكم الذي يركز على الشرق. وهذا النوع من الاستشراق هو أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، والحفاظ على التفوق الغربي، وفرض سلطته على الشرق… وباختصار، فإن الاستشراق هو شراكة خاصة بين إنجلترا وفرنسا ضد الشرق الذي كان ينحصر معناه الفعلي حتى العقود الأولى من القرن التاسع عشر في الهند والأراضي المذكورة في الكتاب المقدس. ومنذ بداية القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية كانت لفرنسا وبريطانيا السيطرة على الشرق والاستشراق، ومع انتهاء هذه الحرب. صعدت أمريكا إلى الواجهة في الشرق وصارت هي المسيطر على الشرق مع اتباعها نفس المنهج التقليدي الذي كانت تتبعه فرنسا وبريطانيا من قبل، الذي يعني أن “الاستشراق ليس تمييزًا جغرافيًّا، بل سلسلة من الاهتمامات”.
وهكذا فإن معالجة سعيد للاستشراق كخطاب يبدأ بالمعرفة المنتجة حول الشرق كانت بمنزلة تطبيق للعلاقة الضرورية التي أسسها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بين المعرفة والسلطة، مع تجاوز رؤية سعيد لطرح فوكو؛ إذ لا يمكن إنتاج المعرفة دون القوة، والمعرفة الغربية المنتجة عن الشرق هي حتمًا المصدر الأكثر أهمية لبنية السلطة المتمركزة في الغرب. وبما أن المعلومات المنتجة عن الشرق صورته على أنه منطقة من الكنوز التي تنتظر اكتشافها، فقد أظهرت الغربَ المهتم به على أنه فضولي ومستكشف وفاعل نشيط يعرف ما يريد، ويسعى وراء ما يريده.
فعندما تحدث سعيد عن “استشراق الشرق” من خلال صورة الشرق المبنية بالخطاب، كان يكشف أيضًا أنه تم بناء الشرق كمورد مفتوح ويستحق الاستغلال. لقد أدت رؤيته تلك إلى تفكيك كل الادعاءات العلمية والموضوعية المنسوبة إلى المعرفة المنتجة عن الشرق حتى الآن.
ومنذ لحظة نشر كتاب “الاستشراق” قدَّم دعمًا رائدا ليس فقط للبحث في الاستشراق، ولكن أيضًا للمقاربات النقدية لجميع أنواع علاقات القوة الخطابية، فقد صار مؤلَّفًا لا يمكن لأي دراسة حول هذا الموضوع أن تتجاهله.
وبالطبع، من المهم بشكل خاص أن نلاحظ أن سعيد استمد الدافع الرئيسي لهذا العمل من مشكلة الاحتلال الإسرائيلي؛ فكل مزاعم حداثة التنوير الغربية كان عليها أن تخضع لتفكيك كامل في المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية.
فالعامل الرئيسي في سيرة سعيد الشخصية والفكرية الذي دفعه إلى كتابة عمل مثل الاستشراق، هو الاحتلال الصهيوني لأمريكا، والذي ذكّره بهويته الفلسطينية. فقد ظل سعيد المواطن الأمريكيّ ذو الأصل الفلسطيني هادئًا حتى عام 1967م، إذ كان لا يزال في المراحل الأولى من حياته الأكاديمية. وفي ذلك الوقت مثله مثل كل الفلسطينيين كان منفيًّا عن وطنه، لكنه يحاول بهذا المنفى التكيف مع أرضه الجديدة، وربما بسبب جنسية والده الأمريكية التي حصل عليها قبل الاحتلال. ومع ذلك، فإن الطريقة التي استقبل بها المواطنون الأمريكيون الصراع العربي الإسرائيلي عام 1967 منحت سعيدًا تجربة تنويرية كاملة.
وذلك بسبب تفاعل العديد من زملائه الأمريكيين اليهود وغير اليهود على حد سواء، مع تصرفات إسرائيل والحديث عنها في الأخبار المتعلقة بالحرب وقبولها وأنها تمثلهم جميعًا. وهذا التصور أو الموقف من “الهوية” قد أيقظ سعيدًا وربطه فعليًّا بالقضية الفلسطينية، وجعله يدخل منذ ذلك اليوم في عملية يعيد فيها فهم مكانه في هذا العالم.
وكتابه “الاستشراق” الذي فتح آفاقًا جديدة في مجاله، هو في الحقيقة الكتاب الأول من ثلاثية كتبه التي ضمَّت كتابين بعنوان “الإسلام في شبكة الأخبار” و”مشكلة فلسطين” نشرهما بعد ذلك مباشرة، وتمت ترجمة الكتب ونشرها في منشورات بينار بعد وقت قصير.
وهكذا يتضح أن التفكير في فلسطين أو التفكير من خلال فلسطين، هو مثال صارخ على نوعية المضامين التي يحملها ويسير بها عالم اليوم. وهذا لا شك هو الدور الذي مارسته فلسطين وخاصة القدس على مدى التاريخ بالنسبة للإنسانية كلها، ويكاد يكرر نفسه اليوم من جديد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس