محمود علوش - ديلي صباح
رغم أن الحرب الروسية الأوكرانية مع اقترب طي عامها الثالث دخلت حالة من الجمود وأصبح العالم أكثر تقبلاً لفكرة التعايش معها كصراع قد يستمر لسنوات طويلة أخرى، إلآّ أنها لا تزال تتصدر قائمة التحديات الكبرى التي تواجه دول حوض البحر الأسود.
ومع أن تداعيات الحرب على منطقة البحر الأسود لا تزال تحت نطاق السيطرة ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى السياسة الحكيمة التي تبنتها تركيا منذ اندلاع الحرب، والتي منحت أولوية للحفاظ على استقرار البحر الأسود والحد من مخاطر عسكرته من خلال تفعيل معاهدة مونترو لتقييد قدرة روسيا والغرب على الوصول من وإلى البحر الأسود عبر المضائق التركية ورعاية اتفاقية الممر الآمن لتصدير الحبوب بين موسكو وكييف، إلآّ أن الآثار الناجمة عن الحرب لا تزال قائمة لا سيما في قضية الألغام البحرية التي تُهدد دول الحوض وأمن الملاحة البحرية، وتتطلب إيجاد آلية للتعاون بين دول الحوض الأكثر تضرراً من هذه الآثار لا سيما تركيا ورومانيا وبلغاريا.
ومن هذا المنظور، تنبغي قراءة مذكرة التعاون التي أبرمتها الدول الثلاث في إسطنبول الخميس الماضي في مجال مكافحة الألغام البحرية. كون هذه المبادرة هي الثانية التي تظهر في منطقة البحر الأسود منذ اندلاع الحرب بعد مبادرة ممر الحبوب، يُكسبها بُعداً مهماً ليس فقط على صعيد أنها تُشكل عملياً بديلاً جزئياً لاتفاقية تصدير الحبوب بين موسكو وكييف، التي انهارت قبل أشهر بعد رفض روسيا عدم تمديدها مرّة أخرى، بل أيضاً على صعيد المنافسة الجيوسياسية بين دول حوض البحر الأسود. عند تقييم أهمية المبادرة، سيكون من غير الصائب عدها تحالف بين الدول الثلاث لمواجهة روسيا في البحر الأسود من منظور استراتيجي. لا تزال تركيا حريصة على عدم الانخراط في سياسة المحاور لأنها تتبنى مقاربة واقعية للمنافسة الجيوسياسية في البحر الأسود وترتكز على عنصرين أساسيين أولهما أن التعاون الجماعي بين دول الحوض هو السبيل الوحيد للحفاظ على استقرار هذه المنطقة والثاني أن أي تعاون بين دول الحوض للحفاظ على أمن البحر الأسود بمعزل عن روسيا، لن يؤدي سوى إلى زيادة المخاطر الجيوسياسية على دول الحوض.
ورغم أن أطراف هذه المبادرة هي ثلاث دول عضو في الناتو، إلآّ أنها لا علاقة لها بالحلف وهي مُصممة بشكل أساسي لمساعدة الدول الثلاث في التعامل مع الألغام البحرية التي يُمكن أن تجرفها المياه من الشواطئ الروسية أو الأوكرانية. لكنها تعكس كيف أن دول حوض البحر الأسود الأخرى باستثناء روسيا وأوكرانيا تسعى للتعاون فيما بينها لضمان أمن الملاحة البحرية. كما أن حقيقة أن هذه المبادرة لا علاقة لها بحلف الناتو تعكس كيف أن أنقرة مُصممة على الحفاظ على موقفها المحايد في الحرب الروسية الأوكرانية وتطبيق معاهدة مونترو بمعزل عن عضوية أنقرة في الحلف. في إشارة إلى أن هذه المبادرة ليست موجهة لأي طرف، قال وزير الدفاع التركي يشار غولار أن دول أخرى في حوض البحر الأسود سيكون بمقدورها الانضمام مستقبلاً إلى المبادرة بمُجرد انتهاء الحرب. في ظل الظروف الحالية، فإن إمكانية مشاركة روسيا أو أوكرانيا في هذه المبادرة غير واقعية. كما أن فكرة أن تكون روسيا جزءاً في هذه المبادرة غير واقعية بسبب أن دول الحوض الأخرى تعارض حالياً أي انخراط إلى جانب موسكو في البحر الأسود.
تتمثل أهمية المبادرة في أنها إلى جانب العمل الجماعي في مكافحة تهديد الألغام البحرية، تُساعد في ضمان أمن الصادرات الأوكرانية من الحبوب على الطريق البحري الممتد على طول السواحل البلغارية والرومانية. وعلى الرغم من أن هذه المبادرة تُعالج جزئياً العقبات التي تواجه تصدير الحبوب الأوكرانية بعد انهيار اتفاقية الحبوب، إلآّ أنها ليست بديلاً عن الممر الآمن الذي لا تزال تركيا تسعى لإعادة العمل به من جديد. وفي هذا الإطار، ستُشكل الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا فرصة لاستكشاف إمكانية إعادة إحياء الممر. حتى في الوقت الذي تسعى فيه تركيا لتعزيز تعاونها البحري مع الدول الأخرى المُطلة على البحر الأسود كبلغاريا ورومانيا، إلآّ أن أولويتها الرئيسية لا تزال تتمثل في الحد من عسكرة الوضع في البحر الأسود وتشجيع جيرانها على التعاون الجماعي في هذه المنطقة. بالنظر إلى أن تركيا تمتلك قدرات بحرية كبيرة، فإن الدول التي تمتلك قدرات أقل على غرار رومانيا وبلغاريا تسعى لتعميق تعاونها البحري مع أنقرة.
إن تركيا، كقوة ضامنة لأمن الملاحة في البحر الأسود، تلعب دوراً حاسماً في إعادة إرساء النظام والحفاظ على توازن القوى في البحر الأسود. قد تُساعد المبادرة الثلاثية الجديدة في التعامل مع الآثار الطارئة الناجمة عن الحرب، لكنّها تُساعد في المستقبل في خلق نقاش حول حاجة جميع دول الحوض بما في ذلك روسيا وأوكرانيا إلى خلق إطار أوسع للتعاون من أجل الحفاظ على أمن البحر الأسود. لأن الحرب الروسية الأوكرانية قد تتحول إلى صراع طويل الأمد، وترتبط ديناميكياته بالصراع الروسي الغربي، فإن الجهود التركية للحد من مخاطر الحرب على البحر الأسود تصب في صالح جميع دول الحوض.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس