د. سمير صالحة - أساس ميديا
لا تختلف العلاقات التركية اليونانية كثيراً عن العلاقات التركية الإسرائيلية. فهي تسير فوق جسر من الألواح الخشبية الرقيقة التي تربط بين واديين سحيقين. علاقات تتحكّم بها ملفّات ومواقف سياسية صعبة ومعقّدة، هذا إلى جانب منظومة تحالفات إقليمية بناها كلا الطرفين في العقود الأخيرة وكان لها تأثيرها على رسم معالم الشدّ والجذب بينهما.
الخوف من انتكاسة
الهدف المعلن في أعقاب زيارة رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتشوتاكيس لتركيا قبل أيام هو ترسيخ الأجواء الإيجابية والبحث عن فرص ومجالات تعاون جديدة وحماية خطوات التواصل في العلاقات الثنائية التي ظهرت إلى العلن في العامين الأخيرين. هل من الممكن تحقيق كلّ ذلك دون تسوية حقيقية في ملفّ الأزمة القبرصية التي تعصف بعلاقات البلدين منذ قرن تقريباً؟
تعرف القيادات التركية واليونانية أنّ انتكاسة سياسية في ملفّات إقليمية تعنيهما ستطيح بجهود التهدئة والتبريد التي تُبذل من قبلها، وأنّه حتى لو كان هناك رغبة في صفوف بعض العواصم التي ترى مصلحتها في حدوث هذا التقارب والانفتاح، فإنّ ملفّ القضية القبرصية سيبقى إحدى أبرز العقبات التي تعترض طريق التنسيق والتعاون بين أنقرة وأثينا، وأنّ عواصم كثيرة حاولت الاستفادة من هذا التوتّر وتأجيج الخلافات لأسباب استراتيجية إقليمية في شرق المتوسط حيث الممرّات التجارية وخطوط عبور الطاقة والموقع الجغرافي القريب من منطقة الشرق الأوسط.
أعلنت أنقرة أنّها استقبلت رئيس الوزراء اليوناني بنوايا حسنة وروح إيجابية سادت في صفوف الجانبين، وأنّ هذه الخطوة تأتي استكمالاً للقاء القمّة الذي عُقد في أثينا على هامش اجتماعات مجلس التعاون الاستراتيجي في كانون الأول المنصرم، وتقرّر فيه تكليف وزيرَي الخارجية في البلدين بوضع خارطة طريق ذات جدول عمليّ مشترك يتمّ اعتمادها. بين أهداف المحاولة الجديدة استغلال مشاريع التنمية والتعاون التجاري الإقليمي التي تشمل طريق الحرير الصيني الجديد وطريق التنمية العراقي والمشروع التجاري الهندي العابر للقارّات والتي يحتاج إليها كلا الجانبين في هذه المرحلة.
الوجبة عثمانية والموسيقى يونانية
لكنّ هناك من يردّد أنّه من غير تحديد حصص قبرص بشقّيها اليوناني – الأوروبي والتركي وموقعها ودورها في كلّ هذه المشاريع الاستراتيجية بين البلدين، لن يكون سهلاً تسجيل أيّ اختراق حقيقي في مسار العلاقات التركية اليونانية. أوروبا لها حصّتها ونفوذها أيضاً، فهي وصلت إلى سواحل شرق المتوسط عبر تحريك الورقة القبرصية قبل عقدين، من خلال إلحاق جنوب الجزيرة بجغرافيّتها بعد مواجهة استراتيجية مع أكثر من لاعب إقليمي ودولي يخطّطون للتمدّد في هذه المنطقة. كانت أوروبا، من خلال مناورة “إلحاق الجزيرة” بها وعرقلة مشروع السلام الذي طرحه كوفي أنان عام 2004، تستعدّ لسيناريوهات اليوم بجوانبها التجاري والأمنيّ والسياسي، فهل يكون بمقدور تركيا الوصول إلى ما تريد في شرق المتوسط عبر محاولة الالتفاف على العقبة القبرصية اليونانية من خلال التفاهم مع أثينا التي هي أصلاً حلقة في المجموعة الأوروبية ولن تغرّد بسهولة خارج هذا السرب؟
يقول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بحضور رئيس الوزراء اليوناني إنّ التطوّر الإيجابي الحاصل في مسار العلاقات بين البلدين هو نتاج الرغبة المشتركة في ذلك، لكنّه ما زال يحتاج إلى عناية ورعاية. من المثير حتماً أن نرى إردوغان وضيفه ميتشوتاكيس يتناولان الوجبة العثمانية على أنغام الموسيقى اليونانية.
باستثناء المواقف السياسية المتباعدة حول توصيف حركة حماس خلال المؤتمر الصحافي المشترك بين إردوغان وميتشوتاكسيس، من الممكن القول إنّ اللقاء الرابع من نوعه خلال عام واحد بين الرجلين كان ناجحاً وسيساهم في تسريع الحوار والتقارب التركيّين اليونانيّين. استغرقت قمّة أنقرة حوالي 90 دقيقة انتهت بإعلان الرغبة في المزيد من الانفتاح والتقارب، وتُوّجت بعشاء على شرف الضيف اليوناني، ودُعي إليه رأس الكنيسة الأرثوذكسية في إسطنبول البطريرك بارتولوميوس كبادرة إيجابية تركية أخرى حيال أثينا بعد فتح أبواب “آيا صوفيا” في إسطنبول للعبادة.
الهدف التجاري هو رفع حجم العلاقات من 6 مليارات دولار إلى 10 مليارات دولار خلال الأعوام القليلة المقبلة. لكنّ الواقع يقول أيضاً إنّ تجنّب القيادات السياسية التركية واليونانية الخوض في الملفّات الخلافية بينها خلال قمّة أنقرة، لا يعني أنّ هذه المشاكل قد سوّيت أو يمكن تجاهلها. هناك ملفّات الجزر الحدودية المتداخلة في بحر إيجه ومسألة الجرف القارّي والأقلّيات ورسم الحدود البحرية للمياه الإقليمية. لكنّ المشكلة القبرصية ستبقى في صدارة المشهد، إذ قال إردوغان إنّ قبول الوضع القائم اليوم هو الشرط المسبق لأيّة مفاوضات حقيقية.
صفحة جديدة وتجميد الخلافات
كيف ستتعامل قيادات قبرص اليونانية مع أجواء ونتائج زيارة ميتشوتاكيس للعاصمة التركية؟ وما الذي سيحمله لها معه من هناك؟ الإجابة على هذا السؤال تتعارض مع ما أوجزه وزير الخارجية اليوناني يورغوس ياراباتريتس وهو يردّد أنّ نتائج زيارة ميتشوتاكيس لأنقرة ذهبت باتّجاه فتح صفحة جديدة من العلاقات مع تركيا. “الهدف هو البحث عن المصالح المشتركة للبلدين”، كما يقول. هناك براغماتية مغايرة تعصف في المسار الجديد للعلاقات بهدف تضييق الخناق على ملفّات التصعيد، لكنّ الوزير اليوناني يعرف أكثر من غيره أنّ عود ثقاب العلاقة بين أنقرة وأثينا دائم الاشتعال بسبب الأزمة القبرصية قبل بقيّة الملفّات، وأنّه حتى لو كان شركاء وحلفاء البلدين يرفضون وقوع الانفجار، فإنّهم لا يتردّدون في صبّ الزيت فوق نار تأجيج هذا التوتّر.
تجميد الخلافات التركية اليونانية لا يعني بالضرورة تجميد الخلاف حول الملفّ القبرصي لأنّه بات أيضاً تحت تأثير أكثر من لاعب غربي وإقليمي. إردوغان وحزبه يتمسّكان بالدفاع عن سياسة الوصول إلى الاعتراف الدولي بقبرص التركية، والقيادات اليونانية تستقوي بأميركا بعد الاتحاد الأوروبي لمواجهة الهدف التركي.
ترى أثينا أنّ قرارات ومواقف الاتحاد الأوروبي هي “مسند الظهر” الأقوى لها في الحوار مع أنقرة. لكنّ العامل الأميركي لا يمكن إغفاله هنا حتى لو كانت أوروبا هي من يمسك بخيوط اللعبة مع اليونان وقبرص اليونانية. لواشنطن حساباتها في الجزيرة وحوض شرق المتوسط في مواجهة النفوذ الروسي والإيراني، ولن تترك مفاتيح اللعبة بيد القوى المحلّية والإقليمية حتى لو كانت مقرّبة منها أو محسوبة عليها.
تطوّرات الحرب في أوكرانيا، وخيبة الأمل اليونانية من الرهان على أوروبا لإخراجها من أزماتها الاقتصادية، وفتح الطريق أمام المزيد من التوغّل العسكري الأميركي في شرق المتوسط، والتطبيع التركي مع شركاء وحلفاء أثينا في شرق المتوسط دفعت القيادات اليونانية للتفكير مجدّداً في فوائد تحسين العلاقات مع أنقرة، وهذا ما جاء ميتشوتاكيس من أجله إلى العاصمة التركية.
تتّجه الأنظار صوب نتائج زيارة ميتشوتاكيس لأنقرة التي استغرقت 6 ساعات فقط بينها اجتماع عمل مع إردوغان لساعة ونصف وعشاء رسمي لساعتين تقريباً. لكنّها تتّجه أيضاً صوب أهداف حزب العدالة والتنمية التركي المحافظ وحزب الديمقراطية الجديدة اليوناني المحافظ في استرداد ما فقداه شعبياً في الأشهر الأخيرة وقبيل الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي تُقلق حزب رئيس الوزراء اليوناني، فلم لا يكون ذلك بين أهداف اللقاءات أيضاً؟
بقيت أيضاً الإجابة على سؤال: هل تساهم جهود تقارب المواقف التركية اليونانية في موضوع غزة ودعم البلدين لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير في إغضاب تل أبيب التي تعوّل على التنسيق الاستراتيجي مع أثينا في مواجهة أنقرة؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس