ترك برس
تناول مقال تحليلي للكاتب والباحث الفلسطيني سعيد الحاج، تحديات حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، ومساراته المستقبلية.
وأشار الحاج إلى أن الانتخابات التي أجريت في تركيا نهاية آذار/ مارس الفائت هي انتخابات محلية بلدية الطابع والاختصاص، وبالتالي ليس لها تأثير مباشر على النظام السياسي المستقر في البلاد، ولكن رغم ذلك كانت لها تداعيات على الأحزاب المشاركة بها، وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي تراجع في هذه الانتخابات لأول مرة منذ تأسيسه.
ورأى الحاج في مقاله بصحيفة "عربي21" أن الأحزاب التركية دخلت الانتخابات المحلية الأخيرة بحسابات وأهداف متباينة، فكان لنتائج الأخيرة تداعيات مباشرة وغير مباشرة على معظمها. فحزب مثل "الرفاه من جديد" الذي كان دخل مجلس الأمة الكبير (البرلمان) بالتحالف مع العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية قبل عام؛ وجد نفسه ثالثا في الانتخابات الأخيرة، وبات يتصرف ويتحدث كلاعب أساسي في المشهد السياسي الداخلي.
في المقابل، أُعلِنَ عن مغادرة رئيس حزب السعادة تمل كاموللا أوغلو رئاسة الحزب "لأسباب صحية"، فيما تحملت رئيسة الحزب الجيد ميرال أكشنار مسؤولية الخسارة فلم تترشح في مؤتمر حزبها العام مجددا. بيد أنه من البديهي أن الأثر الأكبر للانتخابات المحلية بتعلق بحزب العدالة والتنمية الذي يقود البلاد منفردا منذ 2002، وفاز بكل الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها منذ ذلك الحين، قبل أن يحل في المركز الثاني في الانتخابات المحلية الأخيرة خلف منافسه التقليدي وخصمه اللدود الشعب الجمهوري.
وأكد الكاتب أن نتائج الانتخابات حملت مؤشرا واضحا على استمرار منحى التراجع في شعبية الحزب وتأييد الشارع له؛ والملحوظ منذ 2017 على أقل تقدير، وعدَّها الكثيرون "بطاقة صفراء" رفعت في وجه الحزب الحاكم، ما يعني دق ناقوس الخطر بخصوص الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة والمقررة في 2028، رغم الاختلاف البارز في حيثيات وديناميات الانتخابات المحلية عن الأخيرة.
في تقييمه للنتائج، تحدث أردوغان بشكل مباشر عن وجود رسائل مباشرة من الناخبين في صندوق الاقتراع لحزبه، وإلى جانب تعهده بالتفاعل إيجابا مع هذه الرسائل فقد حذّر قيادات حزبه من تجاهلها و/أو إلقاء اللوم على الشعب وليس أنفسهم وإلا "ذبنا مثل الثلج تحت الشمس"، مذكّرا باندثار أحزاب سياسية كانت سابقا ملء السمع والبصر.
جمع الرئيس التركي أسباب تراجع التصويت لحزبه في فكرة البعد عن الشارع والهوة بين الأخير والحزب، معددا أسبابا كثيرة بعضها يرتبط بالأشخاص مثل حياة الرفاهية أو التعامل مع الناس بفوقية فضلا عن أسماء المرشحين، وبعضها الآخر سياسي واقتصادي يتعلق بالأوضاع الاقتصادية في البلاد وبعض الملفات السياسية، مثل الموقف من العدوان على غزة. وفق الحاج.
وأضاف الكاتب: بيد أنه بنظرة أعمق يمكن القول إن ما ينتقده الكثير من الأنصار السابقين لحزب العدالة والتنمية عليه هو التغيرات الجذرية التي تعرض لها على مدى أكثر من عقدين من الحكم المتواصل، بدءا من الأفكار والرؤى، مرورا بالخطاب وليس انتهاء بالممارسة السياسية ومنظومة التحالفات، وهو ما يعني أن المطلوب من الحزب لاستعادة ثقة بعض الشرائح ليس سهلا ولا سريع الحدوث.
في حزيران/ يونيو 2015، حين تراجع العدالة والتنمية لأول مرة في الانتخابات وفشل في الحصول على أغلبية البرلمان، تعهد الرئيس التركي ومعه رئيس الحزب آنذاك، أحمد داود أوغلو، بدراسة رسائل الصندوق والتعامل معها بجدية، وهي الرسالة ذاتها التي تتكرر مع كل محطة انتخابية منذ 2017. يقول الحاج.
وفي كل الحالات السابقة تقريبا، كانت الخطوة الرئيسة تغيير بعض الوجوه في الحزب والحكومة، عبر تعديلات وزارية ومؤتمرات عامة تشمل تغيير جزء غير يسير (زهاء 40 في المئة) من أعضاء الهيئات القيادية في الحزب، وهو توجه نابع من التقدير بأن السبب الرئيس للتراجع هو تقاعس الماكينة التنظيمية للحزب و/أو فشلها.
لكن الحزب يدرك اليوم أن خطوات من هذا القبيل لن تكون كافية ولا مفيدة لاستعادة ثقة الشارع بتعبير أردوغان، ما يعني أنه مُطالَبٌ بما هو أعمق وأكثر جوهرية في الفكر والخطاب والممارسة السياسية، وقد بدأت تتضح بعض ملامح التغيير الذي يسعى له أردوغان داخل الحزب.
وتابع المقال:
أولى إشارات التفاعل مع رسائل الصندوق أتت في سياق القرارات ضد دولة الاحتلال وردا على عدوانها المستمر على قطاع غزة، أولا تقييد تصدير 54 منتجا لها، ثم الإعلان عن وقف التجارة معها تماما، والتوجه للمشاركة في دعوى الإبادة التي رفعتها ضدَّها جنوبُ أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. ذلك أن التقييمات العديدة بخصوص هذه القرارات لم تستطع تجاوز سؤال التوقيت والسياق، والذي ارتبط بشكل أو بآخر بأسباب التراجع في الانتخابات المحلية.
ومن التوجهات الرئيسة المختلفة بعد الانتخابات الانفتاح على حزب الشعب الجمهوري المعارض، وتتويج ذلك بزيارة رئيسه أوزغور أوزال لأردوغان في مقر العدالة والتنمية، وهو اللقاء الأول لرئيسَيْ الحزبين منذ 2016؛ حين التقى رئيس الأخير حينها بن علي يلدرم بزعيم المعارضة في حينه كمال كليتشدار أوغلو، ويخطط أردوغان لزيارة مقابلة لمقر الحزب المعارض ستكون الأولى من نوعها منذ عام 2006.
ثمة إجماع في الأوساط السياسية بأن اللقاء سيساهم بشكل مباشر في تخفيف حدة الاستقطاب والتراشقات السياسية في البلاد، وهو أمر مفيد للحياة السياسية من جهة، وكذلك وبشكل أكثر أهمية للأوضاع الاقتصادية ويمكن أن ينسحب على آخرين.
كما نفذ رئيس البرلمان -القيادي السابق في العدالة والتنمية- نعمان كورتولموش جولة أولى على الأحزاب الممثلة في البرلمان للحصول على دعمها لمسعى صياغة دستور مدني جديد للبلاد يحل مكان دستور عام 1982 المطبق حتى اللحظة (مع تعديلات عديدة لم تغير جوهره)، والذي أتى بعد انقلاب 1980 مباشرة.
من المهم الإشارة هنا إلى توافق جميع الأحزاب السياسية في البلاد، وتحديدا الكبيرة والمتواجدة تحت قبة البرلمان منها، على ضرورة كتابة دستور جديد للبلاد، إلا أنها تختلف في تفاصيل بعض المواد. وقد خاضت الأحزاب الكبيرة عدة نقاشات سابقا بمبادرة من العدالة والتنمية، وشكلت لجنة لصياغة الدستور قبل سنوات لم تصل لشيء. ولعل الحزب الحاكم يراهن على أن تخفيف حدة الاستقطاب السياسي في البلاد قد يساهم في كسب دعم أكبر هذه المرة لمشروع الدستور الذي يراه الحزب ضرورة، ويعدُّه أردوغان أحد أكبر مشاريعه التي يرغب في تتويجه حياته السياسية بها.
وأخيرا، هناك المؤتمر العام الذي ينظمه حزب العدالة والتنمية عادة بعد الاستحقاقات الانتخابية بحيث يكون ضمن عملية المراجعات والمحاسبة. وقد أعلن أردوغان في الاجتماع الموسع لرؤساء فروع الحزب في الرابع عشر من الشهر الجاري عن إطلاق "مسار المؤتمر"، والذي يبدأ عادة بمؤتمرات فرعية في الأحياء ثم المدن والمحافظات ليصل لمحطة المؤتمر العام على مستوى تركيا كلها. وسيسبق كل ذلك لقاءان استشاريان موسعان نهاية الشهر الجاري وبداية الشهر المقبل، مع نواب الحزب أولا ثم مع رؤساء البلديات من أعضائه.
وفيما يشبه الشعار، أكد الرئيس التركي على أن "الإصرار على الخطأ وليس الخطأ نفسه هو الذي يتسبب بالخسارة"، مركزا على فكرة التغيير والتجاوب مع مطالب الناس.
ومع تذكيره في كلمته أمام كتلة حزبه البرلمانية قبل أيام بأن ميزة حزبه كانت دائما قدرته على التجدد والتقدم والتوسع، فقد أشار أردوغان إلى أن المؤتمر يهدف لضم "أسماء جديدة، وقيم جديدة، وجنود خدمة جُدد" للحزب، مؤكدا حاجة الأخير لأشخاص يضيفون له "قوة وأفقا ورؤية ودينامية وحماسا". وقد حرص الرئيس على فكرة تقديم مصلحة الحزب وتركيا على "المصالح الشخصية"، بما في ذلك "استراحة من تعب أو أخطأ" ليحل مكانهم من هم أكثر حماسا ودينامية، دون أن يعني ذلك إظهار عدم الوفاء للسابقين.
وفي الخلاصة، يدرك العدالة والتنمية أن نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة ليست كأي نتائج سابقة، وأن رسالة التغيير الواضحة فيها جدية هذه المرة وتنذر بما هو أكبر في حال لم يجد أنصار الحزب التغيير المنشود الذي يقنعهم. ورغم أن أردوغان أشار في أكثر من حديث له إلى أن أربع سنوات (حتى الانتخابات المقبلة في 2028) مدة طويلة وكافية للعمل والتغيير والإقناع، إلا أن مهمته لن تكون سهلة.
فأكثر من عقدين متواصلين من الحكم المتواصل قد تخللها الكثير من الترهل وضعف الأداء وتغير الأفكار والسياسات، وكذلك الشخصيات القيادية التي أصبح بعضها خارج الحزب بل وفي صفوف المعارضة. يعني ذلك أن أدوات أردوغان في التغيير والتجديد قد تكون غير كافية هذه المرة، وأنه قد يُواجَه بمقاومة داخلية من أوساط وتيارات وشخصيات مستفيدة من الوضع القائم، لا سيما إذا ما أصر على تغيير جذري وحقيقي يمكنه إرضاء الشارع وإقناعه. وعليه، ستكون نتائج المؤتمر المقبل أولى وأهم الإشارات على حجم التغيير المتوقع وبالتالي مصير الحزب مستقبلا إلى حد بعيد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!