ترك برس
منذ عقود تدق تركيا أبواب الاتحاد الأوروبي دون جدوى، ويتعذر الأوروبيون بعدم خضوع أنقرة لمعايير كوبنهاغن، ولكن مع انضمام دول كثيرة للاتحاد لا تتوفر فيها تلك المعايير، حسب المراقبين، فإن السؤال مطروح بشأن الأسباب الحقيقية التي تمنع دولا مثل تركيا من دخول النادي الأوروبي.
ويفرض الاتحاد الأوروبي على الدول الساعية للحصول على عضويته مبادئ خاصة تسمى بـ"معايير كوبنهاغن"، وجاءت هذه التسمية بعد اعتمادها من المجلس الأوروبي عام 1993 خلال قمة عقدت بالعاصمة الدانماركية، ولهذا سميت باسمها.
طريق تركيا.. ومعايير كوبنهاغن
تنص "معايير كوبنهاغن"، حسب موقع المفوضية الأوروبية، على أن الدول المرشحة يجب أن تنتهج سياسة السوق المفتوح مع ضمان مؤشرات اقتصادية قوية وقدرة على التعامل مع الضغوط التنافسية داخل الاتحاد الأوروبي، وأن تكون لديها مؤسسات تضمن الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان وحماية الحريات الأساسية بما في ذلك حقوق الأقليات.
ويعتمد قبول أي عضو جديد، كتركيا مثلا، على إجماع كل أعضاء الاتحاد بأنه استطاع استيفاء المعايير، وأي معارضة -ولو من عضو واحد في الاتحاد- كفيلة بعرقلة أي انضمام جديد.
وبعد موافقة قادة الاتحاد الأوروبي خلال قمتهم المنعقدة في العاصمة الفنلندية هلسنكي في العام 1999 على ترشح تركيا لعضوية الاتحاد، بدأت خلال السنوات اللاحقة مفاوضات الانضمام بين الطرفين، وتزامن ذلك مع وصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم وقيامه بإصلاحات متعددة المجالات رمت عصفورين بحجر واحد؛ فكانت تلبية لحاجات داخلية من ناحية، واستجابة لمعايير كوبنهاغن من ناحية أخرى.
فوفقا لدراسة أعدها مركز برشلونة للدراسات والعلاقات الخارجية، فإن العقد الأول من القرن الـ21 شهد فترة نمو اقتصادي مثيرة للإعجاب في تركيا، إذ تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 3 مرات، أي من 3100 دولار عام 2001 إلى 10.615 دولارات عام 2010، في حين توسعت الخدمات بسرعة، لاسيما في قطاعات مثل النقل والسياحة، وفتحت أسواق تركيا أمام الاستثمارات الأجنبية.
ولم تقف الإصلاحات التركية على الاقتصاد فقط، بل طالت المجال السياسي والقضائي، إذ يعتبر غوي حامورا، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة قوجايلي -في دراسة نشرها تحت عنوان "تركيا والاتحاد الأوروبي الإصلاحات واللاجئون وسياسة الانضمام"- أن حزب العدالة سعى بقوة لإبعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة، فحوّل في عام 2004 مجلس الأمن القومي -المكون في غالبيته من جنرالات الجيش- إلى مجرد هيئة استشارية بعد أن كان الحاكم الفعلي للبلاد، واختار له أمين سر مدنيًّا هو المسؤول عن وضع جدول أعماله، وأقر مجموعة إجراءات أخرى قلّصت نفوذ المؤسسة العسكرية في مجالات الإعلام والاقتصاد.
ويضيف حامورا، أنه في سياق الإصلاح السياسي والحقوقي، صادق البرلمان التركي حينها على تخفيف القيود على الأحزاب السياسية التي كانت كثيرا ما تُحل وتغلق مقراتها بمجرد اختلافها مع السلطة الحاكمة، كما تم إلغاء عقوبة الإعدام في العام 2002 ومنح مزيد من الحقوق للأقليات الدينية في تركيا مثل اليهود والأرمن واليونانيين الأرثوذوكس.
كما وضعت تركيا ضوابط لاعتقال وتوقيف الأفراد وبات مشروطا بالحصول على أذونات قضائية، وتم تعجيل إجراءات التحقيق وتشديد العقوبات في حالة التعذيب ومنع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وإلغاء الكثير من جرائم الرأي، وتعديل قوانين الجمعيات الأهلية، والسماح بالبث باللغة الكردية، وتم الترخيص للعديد من المنظمات غير الحكومية وسمح للعديد من المنظمات الدولية بافتتاح فروع لها في البلاد.
وخارجيا يقول حامورا إن تركيا أبدت مرونة في قضية قبرص، وقبلت لأول مرة منذ سيطرتها على شطر الجزيرة القبرصية عام 1974، الدخول في مباحثات ترعاها الأمم المتحدة لتوحيد شطري قبرص اليوناني والتركي.
معايير مزدوجة
ووفقا لمركز برشلونة للعلاقات الدولية فإنه بدلا من أن تسرع الطفرة الاقتصادية التركية مسار الانضمام، تزايدت تحفظات قادة الاتحاد الأوروبي تجاه تركيا، ودعا بعضهم لاستبدال العضوية الكاملة بـ"شراكة مميزة".
وبحسب دراسة نشرتها منصة البحث إنترأكونوميكس تحت عنوان "تركيا والاتحاد الأوروبي.. القضايا والتحديات وسياسة الانضمام"، فإن تركيا بذلت جهودًا كبيرة لتلبية معايير كوبنهاغن، ونفذت إصلاحات ذات مصداقية خصوصا منذ العام 2002، لذا فإنه من الازدواجية في المعايير أن يقوم الاتحاد الأوروبي بعرقلة انضمامها وتسهيل انضمام العديد من دول أوروبا الشرقية ذات المؤشرات الاقتصادية المماثلة أو الأدنى.
ورغم أن تركيا أيضا بحكم نظام الاقتصاد الذي كان سائدا فيها -بخلاف أعضاء الاتحاد الجدد من أوروبا الوسطى والشرقية-، لم تضطر -بحسب الدراسة- إلى تغيير نظامها الاقتصادي بالكامل لتوائم اقتصاد السوق المفتوح في الاتحاد الأوروبي؛ فإن بلغاريا ورومانيا مثلا وهما أكثر فقرا من حيث القوة الشرائية تم قبول انضمامهما للاتحاد الأوروبي عام 2007.
بل إن الاتحاد الأوروبي يضم من بين أعضائه القدماء دولا ذات مؤشرات اقتصادية ضعيفة تعتمد في كثير من سياساتها على مدفوعات صندوق التعاضد الأوروبي؛ مثل اليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا، وفقا للدراسة.
وتعتبر الدراسة أنه من الحجج غير المقنعة التي يُتذرع بها لعرقلة انضمام تركيا القول إن الاقتصاد التركي اتسم بتقلبات شديدة في معدلات النمو والتضخم، مع أن العديد من الأعضاء الجدد يشبهونها في ذلك، بل إن بعض المراقبين يزعمون أن التقلبات في أنقرة أقل مما هي عليه في اليونان أو البرتغال أو إسبانيا.
ويستنتج مركز دراسات السياسة الأوروبية أن تبرير رفض عضوية تركيا بضرورة مطابقتها معايير كوبنهاغن أمر غير مقنع، فرغم أنه من حق الاتحاد أن يصر على استيفاء كافة المعايير المطلوبة، لكن ينبغي أن يتم ذلك بشكل عادل وجدير بالمصداقية، لا أن يجعل من البلد كبش فداء لاعتبارات أخرى.
وهنا تشير الدراسة إلى أن الاختلاف الديني والثقافي بين تركيا والاتحاد الأوروبي هو ما يبني عليه الرافضون لانضمام تركيا مواقفهم، وتؤكد الدراسة أنه من غير الممكن ترسيخ القيم الأوروبية الثقافية واستدامتها في مجتمع مسلم كالمجتمع التركي.
ومن جهة أخرى، يتفق باحثون أن تركيا بالنسبة لأوروبا ليست فحسب دولة إسلامية كبيرة (86 مليونا)، بل هي وريثة الإمبراطورية العثمانية ذات الصراع الطويل والمرير مع أوروبا، وبالتالي فدولة بهذه الصفات يعتبر معظم صناع القرار الأوروبيين أنها لا يمكن أن تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي "المسيحي".
إذا أضفنا إلى ذلك مطالبة الأوروبيين لتركيا بالاعتراف بحقوق المثليين أو ما يسمى "مجتمع الميم"، وهو ما رفضه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صراحة أمام تجمع حاشد قبيل الانتخابات الرئاسية التركية في مايو/أيار 2023، قائلا "نحن ضد مجتمع الميم.. والأسرة مقدسة بالنسبة لنا.. فالأسرة القوية تعني أمة قوية.."، حسب وكالة الأناضول التركية.
تصريحات تكشف المستور
يدرك المتتبع لتصريحات المسؤولين الأوروبيين السابقين والحاليين أن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي يبدو بعيد المنال، فحسب مركز دراسات السياسة الأوروبية، فإن هناك معارضة قوية رسمية وشعبية لانضمام أوروبا للاتحاد الأوروبي خصوصا في فرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا واليونان.
ونقل المركز عن الرئيس الفرنسي السابق ورئيس مجلس إدارة الاتفاقية الأوروبية جيسكار ديستان قوله "إن انضمام تركيا لن يقود إلا إلى نهاية أوروبا"، في حين اعتبر المفوض الأوروبي السابق الهولندي فريتس بولكشتاين أنه "في حال قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي فإن ذلك يعني أن ما تم عام 1683 من إيقاف الغزو التركي لأوروبا سيذهب سدى"، ورأى مفوض أوروبي سابق آخر هو النمساوي فرانز فيشلر أن "تركيا دولة شرقية لا تناسب أوروبا".
وفي ذات السياق، نقلت الصحافة الفرنسية عن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي -بعد انتخابه عام 2007- قوله إن "مكان تركيا ليس في الاتحاد الأوروبي"، وهو الموقف الذي أكد عليه الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون عام 2018 بقوله "إن نهج تركيا لا يسمح بانضمامها للاتحاد الأوروبي.. لدينا خلافات معها بشأن الأفكار والقيم.. وحان الوقت كي نضع حدا للنفاق في التظاهر بأن ثمة إمكانية لتحقيق تقدم في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي"، حسب الصحافة الفرنسية.
ونقل موقع بي بي سي البريطاني عن المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل قولها "إن تركيا يجب ألا تصبح أبدا عضوا في الاتحاد الأوروبي" وتعهدت ميركل قبيل انتخابات سبتمبر/أيلول 2017 بإنهاء مفاوضات حصول تركيا على العضوية في حال إعادة انتخابها، وتم بالفعل وقف مفاوضات الانضمام عام 2018.
وإن المتتبع لمسار انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي يكتشف أن تصريحات المسؤولين الأوروبيين السابقة الرافضة لانضمام تركيا تمت ترجمتها على أرض الواقع من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) الذي تتناوب الدول الأوروبية على رفعه في وجه أي تقدم في مسار مفاوضات الانضمام منذ انطلاقتها قبل أكثر من 20 عاما.
تعقيد وفتور
تقوم مفاوضات العضوية على التفاوض حول كل فصل من الفصول الـ35 على حدة مع الدولة المؤهلة للعضوية، وبعد تحقيق معايير كوبنهاغن في ذلك الفصل يتم إغلاقه والتجاوز لآخر، ويمكن التفاوض في نفس الوقت على عدة فصول، ولكل دولة من الدول الأعضاء صلاحية إغلاق التفاوض في أي مرحلة وفي أي فصل مع الدولة المرشحة، وهو ما استخدمته عدة دول ضد تركيا، خصوصا ألمانيا وفرنسا واليونان وقبرص.
ووفقا لحامورا، فإن مسار مفاوضات الانضمام اتسم بالتعقيد، فما إن يفتح باب للتفاوض حتى تعمد إحدى الدول الرافضة لعضوية تركيا إلى إغلاق باب تفاوض آخر.. فخلال الفترة من 2006 إلى 2012 تم فتح 14 فصلا للتفاوض، إلا أن الأوروبيين لم يعترفوا لتركيا باستيفاء المعايير المطلوبة إلا في فصل واحد يتعلق بالأبحاث العلمية، بينما منعت فيتوهات الدول الرافضة من فتح 18 فصلا، وهو ما يعطي صورة عن حجم العراقيل الموضوعة سلفا أمام انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
وحسب حامورا، فإن مسار الانضمام خلال الفترة من 2012 إلى 2015 تباطأ، حيث ضعف حماس تركيا نظرا لعوامل متعددة منها استخدام الفيتو بشكل متكرر ضدها ودخول أوروبا في أزمات اقتصادية متعددة خلال تلك الفترة، والأهم من كل ذلك انشغال أنقرة بقصايا الشرق الأوسط ودعمها لثورات الربيع العربي وانتقادها لاحقا لمواقف الغرب وأوروبا الداعمة لمساعي إفشال ذلك الربيع، وخصوصا انقلاب 2013 في مصر.
ورقة اللاجئين.. تعثر وتعليق
وفقا لدراسة مركز برشلونة فإن أزمة الهجرة في 2015-2016 منحت تركيا نفوذا سياسيا كدولة تقف بين الاتحاد الأوروبي وسيل اللاجئين القادم من الشرق، خصوصا من سوريا وأفغانستان.
ويرى حامورا، أن تركيا لعبت بشكل جيد، بورقة اللاجئين فحصلت على دعم أوروبي بنحو 3.2 مليارات دولار للحد من تدفقهم نحو أوروبا، كما حصلت على وعد بإلغاء التأشيرات على مواطنيها ابتداء من أكتوبر/تشرين الأول 2016، وتم إحياء مسار الانضمام.
ولم يستمر التقارب الذي فرضته أزمة اللاجئين طويلا، وما لبث مسار الانضمام كثيرا حتى تعثر، كما نكث الأوروبيون بوعد إلغاء تأشيرات دخول الأتراك، وقد تحجج الاتحاد الأوروبي هذه المرة بالأحداث التي أعقبت محاولة الانقلاب في تركيا في يوليو/تموز 2016، حسب مركز برشلونة للدراسات.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2016 أصدر البرلمان الأوروبي قرارا ينتقد ما اعتبره إجراءات قمعية غير متناسبة في تركيا ويدعو لتجميد محادثات الانضمام، وفقا لصحيفة نيويورك تايمز.
وفي يونيو/حزيران 2018 أعلنت المفوضية الأوروبية تعليق مسار انضمام تركيا. ومن وقتها وحتى كتابة هذا التقرير توقفت عجلة مسار الانضمام، وهو أمر متوقع حسب المراقبين، فما بعد التعقيد والتعثر والفتور إلا التوقف.
وأخيرا، نخلص من الدراسات السابقة أنه لو اتبعت معايير عادلة لكان تحقق انضمام تركيا إلى الاتحاد منذ سنوات، لكن سياقات التاريخ والحاضر تؤكد أن الأفق يبدو حتى الآن مسدودا أمام تحقيق ذلك.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!