د. علي محمد الصلابي - خاص ترك رس

حقَّق صلاح الدين في سنة 583 هـ/1187 م انتصاراتٍ عظيمةً ضدَّ الصليبيين، سيطر خلالها على معظم أنحاء مملكة بيت المقدس ما عدا مدينة صور؛ التي وصفها المؤرخون المسلمون بأنَّها مدينةٌ حصينةٌ متوسطةٌ في البحر، كأنها سفينة، ليس لها طريق إلى البر إلا من مكانٍ واحدٍ له سبعة أبراج. فضلاً عما كانت تتمتَّع به من أسوارٍ منيعةٍ وأبراج عاليةٍ قد امتلأت بالصَّليبيين الهاربين إليها بسبب الأمان الذي منحه صلاح الدين للصَّليبيين مقابل تسليم مدنهم له، وإذا كان الصَّليبيون قد فقدوا في معاركهم ضدَّ صلاح الدين معظم زعمائهم وقادتهم الذين وقعوا بين قتلى وأسرى؛ فإنه قد ظهر بينهم بعض القادة الأكفاء الَّذين تولَّوا مهام أمورهم خاصة كونراد منونتفرات؛ الذي وصفه ابن شدَّاد بقوله: إنه كان رجلاً عظيماً ذا رأيٍ وبأسٍ شديد في دينه وصرامةٍ عظيمة. ووصفه سبط ابن الجوزي بأنه: كان شجاعاً حازماً. وكونراد هذا أو المركيس كما تسمِّيه المصادر العربية أصبح زعيماً للصَّليبيين، دخل صور وقبل مَنْ بداخل المدينة من الأمراء وفرسانهم أن ينضووا تحت لواء كونراد ويعترفوا له بالزعامة عليهم مقابل تَعَهُّده بالدِّفاع عنهم وحمايتهم من هجمات المسلمين، كما قَرَّر رفض ما عرضه صلاح الدين من شروط أثناء المفاوضات، وسارع في إرسال الوفود لطلب المدد والعون من الغرب الأوروبي، وحمل عبء الدفاع عن ما تبقَّى من الكيان الصَّليبي في بلاد الشام حتى قدوم الحملة الصليبية الثالثة. (صلاح الدين والصليبيون، عبدالله الغامدي،  ص 230).

واضطر صلاح الدِّين لرفع الحصار الأول لصور قبل فتح بيت المقدس، وعمل كونراد على تقوية استحكامات المدينة وإعدادها للمعركة المنتظرة، فحفر خندقاً في الجانب الشرقي وهو الجانب الوحيد الذي يربط المدينة بالبر، فأضحت المدينة كالجزيرة، وحصَّن أسوارها ممَّا زاد

في مناعتها. ولما عاد صلاح الدين إلى حصارها في 22 رمضان / من تشرين الثاني، وبدأ الحصار بضرب أسوار المدينة بقذائف المنجنيق، واستعمل المسلمون مختلف أنواع الأسلحة لاقتحامها لكن دون جدوى، فقد صمدت المدينة في وجه الضَّرب والهجمات الإسلاميَّة البريَّة والبحرية، عندئذٍ لجأ صلاح الدين إلى الأسلوب السِّياسي لإقناع كونراد بالتَّسليم؛ إذ كان والده وليم الثالث أسيراً في قبضة صلاح الدين، فحاول أن يستغلَّه كورقة ضغط في التاثير عليه وهدَّد بإعدامه، لكن هذه المحاولة فشلت أمام تصلُّب كونراد؛ الذي ردَّ على صلاح الدين بأنه يفضل أن يُذْبَحَ هو وأبوه عن أن يسلِّم جزءاً من المدينة.

وتجاه هذه التطورات السياسية والعسكرية اضطَّر صلاح الدين إلى رفع الحصار عن صور في آخر شوال 583 هـ/أول كانون الثاني 1188 م، وكان ذلك أول فشل يتعرَّض له في أعماله العسكرية ضدَّ الصليبيين منذ معركة حطِّين، ولقد تضافرت عدَّة عوامل دفعت صلاح الدين إلى فكِّ الحصار عن صور، من أهمِّها:

ـ كان الوضع النفسي للجيش الأيوبي حرجاً بعد أن جابهته صعوبةٌ في فتح المدينة، وقد أشار بعض قادته بأنَّ العساكر بحاجة إلى الرَّاحة.

ـ دعاء الأمراء الأغنياء والممولين للجيش إلى فكِّ الحصار عن صور، لأنَّهم خشوا أن يقترض صلاح الدين منهم ما ينفقه على أفراد الجيش إذا استمرَّ الحصار، في حين كان رأي صلاح الدين متفقاً مع رأي بعض قادته الآخرين القاضي باستمرار مرابطة الجيش أمام صور، مع الاتجاه باقتراض الأموال من الأغنياء، لكنَّ هؤلاء ألحُّوا عليه برفع الحصار.

ـ انفتاح صور على البحر بعد فشل الحصار البحري الذي ضربه الأسطول المصري عليها، فاستمرَّت المؤن والعتاد في الدُّخول إليها.

ـ تساهل صلاح الدين مع صليبي المدن المفتوحة والسَّماح لهم بالتجمُّع في صور، ممَّا رفع معنويات هؤلاء، فتكتَّلوا للدِّفاع عن المدينة.

ـ أدَّت العوامل الطبيعية دوراً اخر في فشل الحصار؛ إذ جاء شتاء ذلك العام مطيراً والبرد شديداً، كما تفشَّى المرض في المعسكر الأيوبي. (النوادر السلطانية، بهاء بن شداد، ص 138).

ويُبدي المؤرخون المسلمون أسفهم العميق لفشل صلاح الدين في فتح صور. وأما المؤرخ ابن الأثير الذي عرف بتحامله على صلاح الدين ـ حمَّل صلاح الدين مسؤولية ما حدث للمسلمين في صور، وذكر: أنَّه لم يكن لأحد ذنب في أمر صور غير صلاح الدين، فإنَّه هو الذي جهَّز جموع الصَّليبيين، وأمدَّها بالرجال والأموال من أهل عكَّا وعسقلان والقدس وغيرها، وذلك بسبب إفراطه في التسامح مع الصَّليبيين. أما سبط ابن الجوزي فيرى: أن صلاح الدين ضيَّع الفرصة على المسلمين بتسيير الصَّليبيين إلى صور، ولم ينظر في عواقب الأمور، وأنه كان من الواجب عليه عرضهم على الإسلام، وإلا ضرب رقابهم بالسَّيف، كما أنه شبَّه تلك الأحداث بما حدث في معركتي بدر وأحد. ويبدو: أنَّ ابن الأثير تحامل على صلاح الدين لأنَّه كان ربيب البيت الزنكي، ولم ينس: أنَّ صلاح الدين قضى على ملكهم في الشام، ولا يستبعد أن يكون سبط ابن الجوزي قد تأثر بابن الأثير في ذلك. (صلاح الدين الأيوبي، على الصلابي، ص460).

والواقع: أنَّ تلك الخطَّة التي اتَّبعها صلاح الدين مع الصَّليبيين، والتي تقوم على تأمينهم مقابل تسليم المدن والحصون له، أتاحت لصلاح الدين فرصة الاستيلاء على معظم مملكة بيت المقدس في شهور قليلة، ما عدا أماكن قليلة منها مدينة صور، وصلاح الدين لم يكن أمامه غير اتِّباع هذه الخطَّة؛ إذ لو عمد إلى الاستيلاء على مدن مملكة بيت المقدس عن طريق القوَّة والمصابرة؛ لطال أمر القتال، هذا بالإضافة إلى أنَّه قد اختار سياسة التَّسليم مقابل الأمان عملاً بالشَّريعة الإسلاميَّة السمحاء.

لقد تصرَّف صلاح الدين طوال حروبه كأنَّه يحاول محاولةً واعيةً أن يجعل نفسه مقبولاً عند رعاياه المقبلين، وأن يضع أساس دولةٍ تعيش فيها الدِّيانتان جنباً إلى جنب تحت ظلِّ السلطان، وكان هدف صلاح الدين سحق قوَّة الصليبيين السِّياسية ولم يكن إبادة المسيحيين.

لقد أثَّرت تصرفات صلاح الدين المستمدة من هدي الإسلام العظيم في السَّاسة الأوروبيين وشعوبهم لما رأوا من عفوه الكريم وتسامحه النبيل، فكان إسوةً حسنةً، ومثلاً يُضرب للناس، وكسب للإسلام بقلبه وسيفه، وهذا ما جعل تشرشل يقول عنه: إنه من أعظم ملوك الدُّنيا، ودفع الكاتب الإنكليزي «ريدر هجارد» إلى القول بأنَّه أعظم رجلٍ على وجه الأرض (صلاح الدين الأيوبي، قلعجي، ص 280ـ 282).

استكمال الفتوحات:

1 ـ فتح الكرك والشوبك:كانت «ستيفاني» صاحبة إقطاع ما وراء نهر الأردن المجاور لمملكة بيت المقدس من بين الأسرى؛ الذين تمَّ افتداؤهم بعد فتح بيت المقدس، فطلبت من صلاح الدين أن يُطلق سراح ابنها «همفري» صاحب تينين، فوافق صلاح الدين على طلبها لكنه اشترط مقابل ذلك تسليمه الحصنين الكبيرين الكرك والشوبك التابعين لهذا الإقطاع، ويبدو أنَّ «ستيفاني» وافقت على شرط صلاح الدين، فأفرج هذا الأخير عن ابنها في حين أوعزت هي إلى حاميتي الحصنين بالاستسلام؛ غير أنهما رفضا ذلك، مما دفعها إلى إعادة ابنها إلى الأسر. تجاه هذا التصرف النبيل بادلها صلاح الدين بتصرف أنبل، فأطلق سراح ابنها بعد عدَّة أشهر وحاصر الحصنين، واستمرَّ حصار الكرك والشوبك ما يزيد على السنة، تعرَّض المدافعون عنهما إلى الجوع والعطش، ولم يَسْتَسْلِموا إلا بعد أن نفدت ذخائرهم وأكلوا دوابهم، ويئسوا من وصول نجدةٍ تساعدهم على الصمود، وصبروا حتى لم يبق للصبر مجال، وكان ذلك في شهر ربيع الأول عام 584 هـ/شهر أيار عام 1188 م.

2 ـ الالتفاف نحو الشَّمال: بعد فتح المناطق الجنوبية لبلاد الشام واتصالها ببقية المناطق الإسلامية من أيلة في العقبة في الجنوب حتى بيروت في الشَّمال، باستثناء صور؛ التفت صلاح الدين بعد ذلك إلى الشَّمال لفتح مناطق السَّيطرة الصليبية في إمارتي طرابلس وأنطاكية، وكان ريموند الثالث صاحب طرابلس قد توفي كمداً بعد فراره من معركة حطِّين بوقتٍ قصير، ولم ينجب ذريَّةً، فأوصى بأن يخلفه الابن الأكبر لبوهيموند الثَّالث أمير أنطاكية، ولكن هذا الأخير كان بحاجة إلى ابنه البكر إلى جانبه للدِّفاع عن إمارة أنطاكية؛ لذلك استبدله بابن اخر هو بوهيموند (مفرج الكروب، جمال بن واصل، (2/271)

واجتاح صلاح الدين البقيعة بعد أن جاءته إمدادات من سنجار، وهاجم حصن الأكراد في شهر (ربيع الآخر/حزيران، وكان بحوزة الدَّاوية، لكنه جُوبه بقوَّة استحكاماته ومناعته، فتجاوزه إلى شواطىء طرابلس وأنطاكية وهاجم أنطرطوس في شهر «جمادى الأولى/تموز» ودخله، لكن استعصت عليه القلعة، فأمر بوضع النار في البلد، وأحرق جميعه.

وحاصر حصن المرقب، فامتنع عليه أيضاً، فاتجه إلى بانياس في أقصى شمال إمارة طرابلس، وفتحها، ثم أوغل في إمارة أنطاكية، فأذعنت له القلعة الساحلية جبلة، واستسلمت

 اللاذقية، وهي أكبر موانىء إمارة أنطاكية، وقد غادرها الصليبيون بعد أن عجزوا عن الدِّفاع عنها، وفتح حصن بكسرائيل الواقع على طريق حماة مقابل جبلة. وتحوَّل صلاح الدين بعد ذلك إلى الدَّاخل، واصطحب معه ابنه الظاهر غازي صاحب حلب، فهاجم قلعة صهيون التابعة للاسبتارية وفتحها عنوةً، واستسلمت له حاميتا بكاس والشغر الواقعتان في الشمال الغربي على نهر العاصي، وسرمين وبرزية، وهي آخر ما يقع من القلاع في أقصى الجنوب من نهر العاصي (تاريخ الأيوبيين، محمد طقوش، ص 173).

وبهذه الفتوح تمَّت السيطرة على جميع المخافر الأمامية لمدينة أنطاكية، ولم يبق من حصون تابعة لهذه الإمارة سوى بغراس ودربساك في الشَّمال، فهاجمها صلاح الدين، فأذعنت له دربساك الواقعة في جبال الأمانوس، وكانت تابعة للدَّاوية، واستسلمت قلعة بغراس التابعة للداوية أيضاً، وكانت تتحكَّم في الطريق المؤدِّي من أنطاكية إلى كيليكية. وهكذا أصبحت إمارتا طرابلس وأنطاكية مقصوصتي الجناح، ولم يبقَ سوى مدينتي طرابلس وأنطاكية، فضلاً عن ميناء السُّويدية، واحتفظ الأسبتارية بحصني المرقب والأكراد، واحتفظ الدَّاوية بأنطرطوس، ونتيجة لما آلت إليه أوضاع إمارة أنطاكية، التمس بوهيموند الثَّالث من صلاح الدين عقد هدنة يعترف فيها بكلِّ فتوحاته، وكانت العساكر الإسلامية قد أصابها الإرهاق نتيجة القتال المتنقِّل والمتواصل، لذلك وافق على التماسه، وعقدت الهدنة بينهما ثمانية أشهر وأتاحت هذه الهدنة لصلاح الدين الالتفاف مجدداً إلى الجنوب، وبعد أن سَرَّح قسماً من جيشه هاجم حصني الداوية في صفد والأسبتارية في كوكب، وفتحهما في شهري (شوال وذي القعدة عام 584 هـ/كانون الأول عام 1188 م وكانون الثاني عام 1189 م (النوادر السلطانية، شداد، ص 152 ـ 154).


المراجع:

1.  صلاح الدين والصليبيون استرداد بيت المقدس، عبد الله سعيد محمد الغامدي، دار الفضيلة بيروت، لبنان 1405 هـ 1985م.

2.  صلاح الدين، على الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2009م.

3.  مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد بن سالم بن واصل.

النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية بهاء الدين بن شدَّاد، تحقيق أحمد إيبيش، دار الأوائل سوريا، الطبعة الأولى 2003 م.

5.  تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، الطبعة الأولى، لبنان 1400 هـ 1999 م.

6.  صلاح الدين الأيوبي، قدري قلعجي الطبعة الثالثة 1997 م، دار المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، لبنان.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس