علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر

الحنين إلى زمن ما ومرحلة تاريخية، حلم يراودنا في أوقات متعدة وكثيرة ربما في لحظات فقدان الآمال يزداد هذا النوع من الحنين، وفي لحظات أخرى تملؤها الرومانسية العاطفية تجرفنا البحث عن لحظات مشابهة، وفي مصر دائمًا ما نرثي هذا الزمن بجملة تتردد كثيرًا بين المصريين “الزمن الجميل” تعبيرًا عن حنين للماضي وفقدان أمانه في الحاضر، هذا الحنين للماضي لم يغب عن المصريين وكان حاضرًا بقوة الأسابيع الماضية بفعل عرض العمل التليفزيوني الدرامي (عمر أفندي) الذي عرضته إحدى المنصات التليفزيونية، المفارقة الغريبة أنه بمجرد انتهاء عرض هذا العمل قدمت منصة أخرى عملًا دراميًا تركيًا يتناول الفكرة نفسها، العبور إلى الماضي.

الأديب الروائي الشاب علي محمد علي الذي قدّم خلال العام الماضي ثلاث روايات أدبية نشر اثنتين منها على منصة إلكترونية هما أبو عيش، وفتى اليونان عن إسكندر الأكبر، وقبلهما نشرت مطبوعة روايته بنتراشيت، وانتهى علي من كتابة روايته الجديدة عن القائد المصري أحمس، منذ أسبوعين حدثني صديقي علي عن فكرته الجديدة، وهي فكرة الذهاب إلى سبعة أزمان مختلفة في رواية واحدة قال إن اسمها المبدئي سبع حيوات.

بينما كان هذا الحديث بيننا دائمًا انتشر عبر “الفيس بوك” جدل حول العمل الدرامي المصري عمر أفندي الذي عرض الشهر الماضي، كانت أغلبية التعليقات على العمل عن أمنية بعض المصريين العودة إلى الماضي فيما قبل ثورة يوليو ليقوموا بإبلاغ الملك عن تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بالثورة المصرية.

كان لديّ فضول لمشاهدة العمل الذي أثار حنين المصريين إلى الماضي، (عمر أفندي) الذي تدور أحداثه حول علي فنان شاب خريج كلية الفنون الجميلة، والده فنان تشكيلي أيضًا، الشاب يقع في غرام فتاة ثرية، لا يوافق والده على الارتباط هذا لتناقض القيم والمعايير، ولكن تحت ضغط الظروف الاقتصادية يتزوج الفنان الشاب من الفتاة الثرية، يقاطعه والده حتى يتوفى.

يذهب الشاب علي إلى بيت والده الأثري بعد وفاة والده، وخلال إقامته يكتشف سردابًا داخل منزل والده ينقله إلى زمن آخر، يدخل السرداب وفي الطرف الآخر يجد نفسه في مصر عام 1943، وهذا هو التاريخ الذي أثار بعض الشباب لكي يقوموا بمهمة إبلاغ الملك عن الأحرار (اللي خربوا البلد) حسب فهمهم وما تربوا عليه منذ مايو 1974 حتى الآن.

فندق “بيرا بالاس” واحد من أقدم الفنادق التي بنيت في إسطنبول في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، بناه المهندس الفرنسي العثماني ألكسندر فالاري عام 1892، ويقع في منطقة بي أوغلو وسط المدنية وبالقرب من ميدان تقسيم أكبر ميادين إسطنبول، وكانت المنطقة هي مكان إقامة المبعوثين الأجانب في العصر العثماني ولبي أوغلوا وبيرا بالاس حكايات كثيرة في سنوات الخلافة العثمانية الأخيرة، فقد استوطن المنطقة الأجانب كلهم الذين تآمروا على إنهاء الخلافة الإسلامية.

في ذكرى إقامة الفندق الـ130 تطلب مديرة إحدى الصحف من الصحفية أسرا العمل على كتابة مقال صحفي عن الفندق، ولماذا واحد من أهم الفنادق التي يقيم فيه المشاهير من نجوم العالم على مدى التاريخ؟ وحكايات النجوم أمثال الروائية العالمية أجاثا كريستي، والمخرج العالمي ألفريد هينشكوك، وغيرهما من مشاهير الثقافة والسياسة، هذه هي الحكاية التي يبدأ بها العمل الدرامي التركي (منتصف الليل في بيرا بالاس) الذي تم نشر جزأين منه منذ أربع أيام فقط، وبعد شهر من عرض مسلسل عمر أفندي المصري.

التقى العملان المصري والتركي في فكرة العبور للزمن، عندما تصل أسرا بطلة العمل الدرامي التركي للفندق يستقبلها أحمد مدير الفندق، يقوم أحمد بصحبتها ليعرض لها أهم أحداث الفندق وتاريخه، تكتشف أسرا أن هناك مفاتيح قديمة للفندق حينما يمسك أي نزيل مفتاح الحجرة عند منتصف الليل يذهب في رحلة عبر الزمن إلى تاريخ معين لكل غرفة، وفجأة تجد إسرا نفسها في شهر إبريل/نيسان 1919، وهو الشهر الذي كان يخطط فيه مصطفي كمال أتاتورك للثورة التركية ضد الاحتلال البريطاني، ويخطط الإنجليز لاغتياله لإخماد المقاومة التركية.

لا أدرى إن كان عرض العملين في توقيت قريب هو توافق منصات على الماضي والحنين إليه مع اختلاف التوجهات أو هو مجرد توارد أفكار بين مؤلفي العملين، المفارقة هنا في اختيار تاريخ العودة إلى الماضي، بينما عاد علي الفنان التشكيلي المصري إلى عام 1943 وهو عام هادئ جدًا سياسيًا في مصر، ولم تكن هناك أحداث سياسية وتاريخية مهمة، سبقه عام 1942 الذي شهد فيه شهر فبراير/شباط دخول الدبابات الإنجليزية لقصر عابدين وفرض عودة وزارة النحاس على ملك البلاد، وشهدت الأعوام التي بعده ثورة الشباب المصري التي كانت قمتها في 1946 أحداث كوبري عباس الذي شهد استشهاد الكثير من الشباب المصري بتوافق الأمن المصري والإنجليزي.

اختار المؤلف في المسلسل التركي (منتصف الليل في بيرا بالاس) العودة إلى إبريل، ومايو 1919 حيث يتولى الجنرال مصطفى كمال أتاتورك قيادة الفرقة التاسعة في الجيش التركي، ويخطط البريطانيون لاغتياله، وتكون مهمة أسرا الصحفية التي عادت للماضي أن تعمل على إنقاذ قائد الثورة والرجل الذي تدين له تركيا بتقدمها حتى الآن، ويعدّونه الأب الروحي لكل ما هو تركي، رغم أنه كان عسكريًا! ورغم أن تركيا عانت كثيرًا من انقلابات عسكرية حتى نهايات القرن العشرين.

اختيار هذا التاريخ في العمل الدرامي التركي يتوافق مع احترام الأتراك للتاريخ ومع الأعمال الدرامية المتنوعة والمتعددة التاريخية سواء ما يتناول التاريخ العثماني ونشأة الدولة، أو ما يقدم تاريخ النضال ضد الاحتلال والثورة التركية وإقامة الجمهورية التركية في عام 1923، لذا اختار المؤلف العودة إلى تاريخ يكشف صفحة من هذا التاريخ، وحينما عرض العمل لرحلة أخرى في العمل كان التاريخ المختار هو 1941 عندما احتلت تركيا أثناء الحرب العالمية الثانية وعرض لكيفية تعامل الاحتلال مع الأتراك على اعتبار أن إسطنبول هي القسطنطينية الرومانية القديمة التي احتلها العثمانيون منذ 500 عام.

اختار عمر أفندي أن يذهب إلى حارة مصرية يتحكم فيها بلطجي (أباظة) ويتعامل مع الإنجليز واليهود في استغلال المصريين ومص دمائهم، وعلاقة حب بين علي الفنان الشاب، وفتاة مصرية تمتلك مع أمها “بنسيون” وتعمل في ملهى ليلي مغنية، وفي عمر أفندي ينتقل علي عبر السرداب أو النفق بين الحاضر والماضي، أما في منتصف ليل بيربالاس فلا تستطيع أسرا العودة إلى حاضرها مع أحمد حتى الآن مع بداية الجزء الثاني من العمل، بل تتعمق أسرا في التاريخ لتعرف جذورها وهي الفتاة التي لا تعرف لها أهلًا لتجد أسرا نفسها أمام جدتها، وأمها لتعرف من هي.

أخطر مشهد في العمل الدرامي المصري عمر أفندي هو مشهد التاجر اليهودي شلهوب الذي يعيش مرعوبًا من دخول هتلر مصر، ويضطهد اليهود كما فعل في أوروبا وألمانيا فيفرق شلهوب أبناءه وزوجته في أقاليم مصر، وعندما يشعر بقرب الألمان من مصر يقوم بتغيير أسماء أولاده إلى عبد الرحمن، وفاطمة، بينما يبقي على اسم زوجته نجوى فهو اسم ينفع مسلم ومسيحي أيضًا، مشهد له دلالة مهمة ويحقق ما تنبأ به المفكر الكبير الراحل عبد الوهاب المسيري عن اليهودي الوظيفي الذين انتشروا كثيرًا، وأصبحنا لا ندري من منهم ابن شلهوب، ومن هو المصري المسلم الحقيقي؟

عن الكاتب

علي أبو هميلة

إعلامي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس