علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر

أخطر ما يمكن أن يواجهه قائد في وسط معاركه الدائرة مع العدو مفاجأة خيانة أقرب القادة إليه. وما بالك إذا كان هذا القائد هو معلمه ومربيه، والرجل الثاني في الدولة التي يحكمها هذا القائد، بل صاحب سبع صلاحيات من صلاحيات القائد؟! تلك كانت العلاقة بين السلطان محمد الفاتح والصدر الأعظم للدولة العثمانية “خليل الجاندرلي”.

وقد أفرد فريق العمل مساحة كبيرة لها في العمل الأكثر شهرة ومشاهدة بين الأعمال التركية التي عُرضت على مدار عامين، وانتهت حلقات موسمه الثاني قبل بداية الحرب على إيران التي استمرت 12 يوما.

كان الواقع الذي مرّ على العالم في أيام الحرب على إيران أقوى من كل الأحداث التي يمكن تقديمها في عمل درامي. وبعد انتهاء الحرب، جاءت فرصة لمشاهدة الحلقة الأخيرة من “سلطان الفتوحات”، الذي أقدّر جهود كل العاملين فيه من أصحاب الكتابة الدرامية حتى أصغر الفنيين، بل لا أبالغ في القول إنه واحد من أهم المسلسلات في تاريخ الدراما التركية، وقد حصل على جائزة “العمل الأفضل” الموسم الماضي من هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية.

شهد العمل مبارزة فنية في الأداء الدرامي بين جميع الأبطال، الذي أجاد مخرجه تسكين الممثلين في الأدوار، خاصة بطل العمل “سيركان أوغلو” في دور محمد الفاتح، و”سليم بيرقدار” في دور الصدر الأعظم خليل باشا. وكانت الحلقة الأخيرة المبارزة النهائية في الأداء التمثيلي، لينهيا الموسم الثاني في أعلى نقطة درامية، وتحت عنوان كبير هو “محاكمة الخيانة العظمى في دولة كبيرة”.

طوال مدة الأحداث الدرامية للعمل، كان الصراع بين وجهتي النظر للبطلين في حكم الدولة. فالصدر الأعظم للدولة العثمانية يرى في محمد خان بن مراد الثاني، منذ طفولته وشبابه، أنه فتى حالم، متهور، مندفع، وأن تلك الصفات قد تؤدي إلى انهيار الدولة، التي تحمَّل مع أسلافه عبء بقائها وكونها إحدى الدول الكبرى في العالم.

أما محمد الفاتح، المتمرد على أفكاره منذ صغره وأثناء تعليمه، فسيكون سببا في خراب تلك الدولة وانهيارها، بحلم فتح القسطنطينية ومواجهة الإمبراطورية البيزنطية الكبرى.

محمد الفاتح، الذي تولى الحكم صبيا أثناء حياة والده السلطان مراد خان، لا يرى أمامه سوى حلم فتح التفاحة الحمراء، وبناء دولة قاعدتها القسطنطينية، وتحكم العالم بالعدل، وتنشر الرسالة المحمدية والإسلام في العالم. ولا يتردد الفاتح في السعي لذلك، حتى لو كلفه ذلك استشهاده، وفي عقله وقلبه بشارة الرسول الكريم: “ستفتح القسطنطينية، ولنعم الجيش هو، ولنعم الأمير”.

وجهتا النظر مقبولتان في إطار عناصر الدولة المتعددة، بين الحالم الذي يظنه البعض متهورا إلى درجة تعرّض الدولة للخطر، مثل “خليل الجاندرلي” وغيره من قادة الدولة، أو من يسانده مثل شيخه الروحي الصوفي “آق شمس الدين”، أو معلمه الثاني “زغانوس”، ووزيره “شهاب الدين”.

وتظل الأمور في حيز صراع الرؤى داخل الدولة، حتى يجري التعاون مع الأعداء عبر بوابات خلفية، ودون علم القائد. وتصل الأمور إلى خطورة على حياة القادة، ودعم الفتن بين صفوف الجيش، وخلق ولاءات داخل هذه الصفوف، تصل إلى حد التراجع أثناء المعارك المفصلية في حياة الأمة.

تلك كانت جريمة الصدر الأعظم للدولة العثمانية في معركة فتح القسطنطينية. لم تبدأ تلك الخيانة متأخرة، بل مبكرا جدا، منذ بداية تولي الفاتح السلطنة ومحاولة إبعاده عنها. والأسوأ هو استمرارها أثناء المعارك، فقد بذل الخائن جل جهده في إعاقة محاولات الفتح.

وبعد الفتح، استمرت تلك المحاولات، سواء في التعامل مع الأعداء لإفشال الاستقرار في المدينة الجديدة، أو لتثبيت وضعه بين قادة السلطان. وفي الحلقتين الأخيرتين، كانت عملية سقوط الرجل الأول في دولة السلطان محمد الفاتح.

كان الفاتح يثق في صدره الأعظم ومعلمه ثقة بلا حدود، ويرى فيه أحد أعمدة الدولة العثمانية وديوان حكمه. وفي أحيان كثيرة، يرى في نزقه خوفا على الدولة، بل كان أحيانا يتغاضى عن الأخطاء على سبيل أنه صراع بين أركان الحكم لإرضائه.

أحد أكثر عيوب القائد ميله العاطفي تجاه قادته، وأن تصبح العلاقة الإنسانية عائقا أمام الرؤية، أو تكون العاطفة سببا في تأخير القرار والتغاضي عن الأخطاء. وقد ظهر ذلك جليا في علاقة الرجلين، حتى أصبحت الأمور جلية بحيث لا يمكن إبعاد النظر عنها.

التردد في التعامل مع الخونة كارثي. والواقع أن فعل الخيانة يظهر في كل الأعمال التاريخية في الدراما التركية. ففي أعمال كبيرة مثل “أرطغرل”، “المؤسس عثمان”، “بربروس”، “فاتح القدس”، “عبد الحميد الثاني”، و”سلطان الفتوحات”، كانت الخيانة في قلب ديوان الحكم.

هذا الفعل، الذي أصبح بالنسبة لي مؤلما حتى وأنا أدرك أنه دراما تمثيلية، لا أطيق رؤية الخيانة والخونة، حتى ولو دراميا. وما رأيناه في لبنان وإيران وغيرها، في الآونة الأخيرة، يشير إلى خسارات كبرى بفعل الخيانة.

جاءت الحلقة الأخيرة لمسلسل (محمد.. سلطان الفتوحات) في مستوى راقٍ دراميا وفنيا. والصراع النفسي داخل كل شخصيات العمل، المقربين من السلطان وأيضا من صدره الأعظم، وبأداء فريد من البطلين “سيركان” و”سليم”، وباقي الشخصيات. وحتى مشهد الختام، والصدر الأعظم على منصة الإعدام، وحوله كل رجال الدولة، بينما يقف السلطان يستدعي كل أيامه مع معلمه ورجل دولته الأول، وتفيض عينه بدموع تاريخ طويل.

الطرف الثاني يرى أنه الدولة، وأنها عهدة أسلافه التي يجب المحافظة عليها، حتى لو وصل الأمر إلى خلع سلطان وتولية آخر. وكما قال “أنا الدولة وأجدادي، أنا من أخلع سلطان، وأُولّي آخر”.

ظل خليل يمارس فعل الخيانة حتى ليلة إعدامه، حينما حاول تأليب فصائل الجيش على السلطان، وإعلان تمردها. فالرجل صاحب أفضال على فصائل كاملة، بل وعلى قادة كبار، ووزراء أيضا من رجال الدولة، وهناك قبائل تراه الأب الروحي لها وللدولة.

وكان ذكاء محمد الفاتح في تأخير محاكمة “الجاندرلي” فكرة عبقرية، لكشف جميع من هم حوله، وحتى يعرف من يدين بالولاء لدولته، ومن يوازن الولاء بمصالحه.

بقي مشهد الختام، والرجل الثاني في الدولة يخطو نحو الإعدام مقتنعا بأنه كان يسعى للمحافظة على الدولة، وحوله السلطان ورجال الديوان الذين في ذاكرة كل واحد منهم بقايا علاقات كبيرة مع الرجل الذي يُعدم.

الواقع أنها نقطة ضعف كبيرة، أن تكون العلاقات العاطفية عائقا أمام اتخاذ قرار في صالح الأمة. فالخيانة لا تسامح معها، حتى لو كان الخائن أخا. والعلاقة الإنسانية في مواقف تاريخية كثيرة، كانت نتائجها كارثية على الأوطان.

انتهى الموسم الثاني من (محمد.. سلطان الفتوحات) في نقطة درامية عالية، هي إعدام الجاندرلي. وفي الوقت نفسه، ظهور شخصية “محمود باشا” الصدر الأعظم الجديد، وبداية فتوحات جديدة حول القسطنطينية.

وقد أفلت العمل من مقص المشاهدات، الذي حرم الجمهور من مسلسلات مثل “فاتح القدس”، ومسلسل آخر مهم هو “يا ما كان يا إسطنبول”. وفي الموسم الثالث من “سلطان الفتوحات”، يخسر الجمهور ممثلا بحجم “سليم بيرقدار”، الذي قدَّم واحدا من أهم أدواره الدرامية وأفضلها.

عن الكاتب

علي أبو هميلة

إعلامي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس