ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر
ماذا وراء تفجير إسرائيل لأجهزة الاتصال “البيجر” التي يستخدمها أعضاء حزب الله في لبنان؟ هل أراد الموساد من هذه العملية استعادة أسطورته التي تلاشت مع بدء عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023؟ أم أنها انهيار مأساوي لأسطورة حزب الله الذي استطاع لعدة سنوات أن يقدم نفسه للمنطقة والعالم على أنه المقاوم الأكبر والمنقذ للمنطقة في مواجهة إسرائيل؟
في هذا السياق وقبل أن نصف هذه العملية بأنها عودة أسطورة أو انهيار، من الضروري التأكيد على أن الكيان الإسرائيلي قد تجاوز خطوطًا حمراء جديدة في هجماته، ففي كل مرحلة يزداد مستوى إجرامه، وينحط مستوى الإنسانية لديه في جرائمه يومًا بعد يوم.
وما أظهرته الأحداث حتى الآن يشير إلى أن ما فعلته إسرائيل في تلك العملية لم يكن مجرد عملية تجسس عبر برامج خاصة بأجهزة البيجر ذات التقنية القديمة التي تعود إلى التسعينيات. بل على العكس، من الواضح أنها عملية اختراق تمت بالتلاعب في رحلة الأجهزة إلى حزب الله، وذلك باستيلاء إسرائيل على تلك الأجهزة التي دفع فيها حزب الله مبالغ طائلة، في مرحلة من مراحل توريدها، وقامت بوضع كميات من المتفجرات داخل الأجهزة. وهذا يعني إساءة استغلال مبادئ الثقة المتبادلة في التجارة الدولية المبنية كليًّا على الثقة، حينما تسلل اللص الإسرائيلي ووصل إلى الأجهزة بطرق غير مشروعة لتنفيذ عمليته.
ولعل أحدهم يرفع القبعة لذلك الاختراق ويقول إن “كل شيء مباح في الحرب”. لكن هذه العملية التي أساءت استغلال الثقة في العملية التجارية بدناءة واضحة، وأسفرت عن مقتل مدنيين وأطباء وممرضين، لا تُظهر تميُّز إسرائيل أو تفوقها الاستخباري، بل تكشف فقط مدى انحطاطها ووحشيتها، وتثبت أنه لا يمكن الوثوق بإسرائيل بأي شكل من الأشكال ليس فقط في الحرب، بل حتى في السلام.
ومن ناحية أخرى تكشف أنه لا يمكن الوثوق بأي جهة تتعامل معها، وهنا تبرز ضرورة مقاطعة منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل؛ لأن هذه الشركات مستعدة لإلحاق كل أنواع الأذى بأي شخص لصالح إسرائيل في أي وقت، وقد تضع في منتجاتها أي سموم بيولوجية أو كيميائية أو متفجرات أو أي مادة أخرى، ولهذا فهناك انعدام ثقة في الشركات التي تدعم هذا الكيان المحتل؛ لأنها قد تعرض عملاءها لكافة الأخطار والأضرار في أي مكان.
وكما قلنا فإن قدرة إسرائيل على ارتكاب هذا القدر من الشر لا تعكس عظمتها أو مهارات استخباراتها الأسطورية. فالحقيقة أن تنفيذ مثل هذه العمليات لا يحتاج إلى سوى الخسة والدناءة والوحشية. فهذه التكنولوجيا والإمكانات متاحة لدى العديد من الدول وليست حكرا على إسرائيل، لكن الأمر يتوقف على الجرأة على ارتكاب الشر وأذى الآخرين. وبعيدا عن أجهزة البيجر البسيطة، فقد أصبح تحويل الهواتف إلى أسلحة من خلال البرامج اليوم من أسهل المهام في علم البرمجيات، ولكن ليس لدى كل الدول الجرأة على القيام بذلك؛ لأن هذه الأفعال جريمة غير إنسانية وهي أسوأ وأكثر وحشية من الهجمات الكيميائية.
وبهذه الحادثة رأى الجميع مرة أخرى أن إسرائيل مستعدة لعمل أي شيء للإضرار بالآخرين. وتأكد للجميع أن الصهيونية تشكل تهديدًا كبيرًا للإنسانية كلها. ولكن ذلك لا يعني أن هذه العملية تعبر عن عودة مدهشة لأسطورة الموساد وقدراته الاستخبارية بعد أن فضحها طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. بل إن اغتيال صالح العاروري أحد قادة حماس، أثناء إقامته في منطقة خاضعة لسيطرة حزب الله في لبنان، إلى جانب العمليات الأخرى التي استهدفت قادة حزب الله، واغتيال القائد إسماعيل هنية في عملية خسيسة داخل منزل خاضع لسيطرة الحرس الثوري الإيراني في طهران، كلها عمليات تكشف أسلوب الكيان الصهيوني المخزي في الاختراق والتسلل من الداخل والمساعدات التي يتلقاها من الخارج للوصول إلى أهدافه، لكنها في الحقيقة لا تزيل عنه العار الذي لحقه بعد فشله الكبير منذ 7أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
في هذه الأثناء تنكشف حقيقة أن العمليات التي تعتبر ناجحة للموساد الإسرائيلي يتم تنفيذها أيضًا باستغلال الثغرات ونقاط الضعف الاستخبارية والأمنية لدى حزب الله. وبالطبع لا يمكن لأحد أن يقول إن حزب الله الذي يتعرض لضربات متتالية من إسرائيل يتعاون معها لتنفيذ هذه الضربات التي تصيبه. ولكن ما يدعو إلى الاستغراب هو أن حزب الله الذي ظهرت قدراته في الحرب الأهلية السورية في القتل والتدمير، يبدو الآن غير قادر على التصدي للهجمات الإسرائيلية رغم الضربات التي يتلقاها من حين لآخر، ولم يُظهر حتى الآن شيئًا من المهارات التي أظهرها في سوريا. هل من المقبول أنه عاجز إلى هذه الدرجة؟!
وبصرف النظر عن التفاوت الشديد في ردود حزب الله ومقاومته، فهناك حالة جديدة تسبب فيها حزب الله لعلاقته بإيران والحوثيين ومواقفهم جميعا من إسرائيل. فالحرب الدائرة في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بين إسرائيل وحماس قد ألقت بظلالها على الرأي العام العالمي، وأوجدت موجة واسعة من الأفكار والعواطف المناهضة لإسرائيل لصالح حماس وفلسطين.
وفي هذه المرحلة من المواجهة بين المقاومة وإسرائيل اكتسبت القضية الفلسطينية زخمًا لم تحظ به منذ عام 1948. فالقضية التي كادت تُنسى وتُهمَّش حتى من قِبَل أصحابها وداعميها، عادت مرة أخرى لتكون القضية الأكثر أهمية وشغلًا للرأي العام العالمي. كما انكشفت حقيقة إسرائيل وكل داعميها السياسيين والإعلاميين والأيديولوجيين هذه المرة.
ولكن على الجانب الآخر يبدو أن إيران وحزب الله والحوثيين قد أعطوا الفرصة من جديد لإسرائيل وأمدوها بمصدر القوة والمبرر الذي تحتاج إليه. ربما لم يفعلوا ذلك عن قصد، بل إسرائيل هي التي تدير ذلك بمهاجمتهم واستهدافهم وإبقائهم في دائرة الضوء. في الواقع، تجد إسرائيل متنفسها في هذه الجبهة بينما يشتد عليها الخناق في غزة؛ فالميدان البعيد من غزة سهل وفرصة لتحقيق الانتصارات سواء من الناحية العسكرية أو الاستخبارية أو من حيث إعادة ترتيب المشهد برمته كما يحلو لها.
وفي نفس الوقت في غزة تستمر هجمات الإبادة الجماعية الإسرائيلية ويستمر قتل العشرات والمئات من الأطفال والمدنيين والنساء بأبشع الطرق وأكثرها وحشية، كما يستمر أبناء غزة الشجعان في مقاومة هذه القوة الإجرامية. وهذا التصعيد والمقاومة يدفعان إسرائيل إلى الجنون والمزيد من الأخطاء والعدوانية الوحشية التي تجرُّها إلى نهايتها المحتومة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس