سمير العركي - الجزيرة مباشر
بيد شبه مقطوعة، وجسد منهك متعب من شدة النزف، ألقى به صاحبه على أريكة، في صالة بيت مهدم الجدران، تقتحم عليه طائرة مسيّرة جلسته الأخيرة فيواجهها بعصا خشبية أمسكها باليد الأخرى، هكذا بدت اللحظات الأخيرة لرحيل يحيى السنوار.
نهاية أسطورية لقائد ملأ الدنيا وشغل الناس، تكفل بحفظها وترويجها، عدوه اللدود، عن غير قصد ولا تعمد، لكنها الرغبة في التشفي، أو ربما غباء التقديرات البشرية، هي التي دفعت جيش الاحتلال إلى نشر صور فوتوغرافية، ثم مقطع مصور، للحظات الأخيرة في حياة الرجل الذي ظل أكثر من عام يبحث عنه في كل شبر من قطاع غزة دون جدوى.
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يُمني نفسه باعتقال السنوار حيا، ليمارس عليه إذلالا ينال به من شرف المقاومة وكبريائها، وإن لم يستطع فعلى الأقل، يتم إخراج مشهد نهاية الرجل، بما يهدم صورته بوصفه مقاومًا في وجدان الشعب الفلسطيني.
لكن الصور التي تسربت، حطمت أحلام نتنياهو، ومنحت السنوار نهاية أسطورية مشرفة تليق بمسيرته النضالية الممتدة على مدار عقود.
لم تكن الصورة فقط هي التي تروي تلك اللحظات، فقد تكفل الإعلام الإسرائيلي بنقل تفاصيل ما فعله السنوار ورفيقاه قبل الرحيل. فماذا قال؟
كان الثلاثة في حي تل السلطان بمدينة رفح، الذي تم إفراغه من سكانه في بدء اجتياح المدينة، ولم يعد فيه إلا المقاومون وفصائل جيش الاحتلال.
لم يكن السنوار مختبئا في الأنفاق، مؤثرا السلامة بعيدا عن الأخطار، بل كان يتحرك مثل أي قائد ميداني، هنا وهناك، بين الأنفاق وبين جبهات القتال في كامل عدته العسكرية، مستعدا للمواجهة في أي لحظة.
وعلى بعد ألف قدم فقط من مسرح عمليات الجيش الإسرائيلي، كان السنوار يتحرك، أي على خط الجبهة المباشر، رغم كونه المطلوب الأول لإسرائيل، وحلفائها الغربيين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، الذين مسحوا قطاع غزة بحثًا عنه، واستخدموا تقنيات حديثة لالتقاط صوته من أحد الأنفاق!
لم تتوقع القوات الإسرائيلية أن يكون الأشخاص الثلاثة الذين تم رصدهم، وتصنيفهم بأنهم من قوات المقاومة، أن من بينهم قائد طوفان الأقصى، الذي حطم كثيرا من أساطيرهم الأمنية والعسكرية، أي أن المواجهة كانت عشوائية، ولم تكن نوعية بناء على معلومات استخبارية، من خلال اختراق أمني لدائرته المقربة.
في التفاصيل نعرف أن القوات الإسرائيلية، لم تجرؤ على الاقتراب من المبنيين اللذين انقسم إليهما السنوار ورفيقاه، واكتفت قوات الاحتلال بقصفهما، وعندما حاولت قوة الدخول إلى المبنى الموجود فيه السنوار، عاجلهم -رغم إصابته- بإلقاء قنبلتين على القوة.
ثم أرسلت قوات الاحتلال طائرة مسيّرة أخرى، إلى داخل المنزل، وهي التي حفظت لنا صورة السنوار وهو يجلس على الأريكة، ويده شبه مقطوعة، ومرة أخرى لا تجرؤ القوات الإسرائيلية على دخول المبنى، فاستهدفوا المبنى بقذيفة دبابة ليستشهد السنوار دون معرفة شخصيته التي بدؤوا التعرف عليها في اليوم التالي أثناء مسح المبنى.
ومؤخرا اعترف الجيش الإسرائيلي بإصابة أحد جنوده إصابة خطيرة جراء الاشتباك مع السنوار ومرافقيه.
هذه التفاصيل المروية باختصار، تختزل قصة الرجل وحكايته التي تجاوزت كونها سردية فلسطينية، إلى حكاية إنسانية عالمية بالغة العذوبة والصرامة معا.
في مشهد رحيل السنوار، تتجلى صلابة المقاوم الفلسطيني المستمدة من مظلومية تمتد إلى قرابة ثمانية عقود، طرق فيها كل الأبواب، وجلس على جميع موائد المفاوضات، واستمع بإنصات إلى المحاضرات عن أهمية السلام وضرورة التعايش مع الاحتلال.
لكن رغم التنازلات المتتالية لم ينل الفلسطيني إلا العنت والمشقة، وتحول إلى رقم في سجلات “الأونروا”، ونزيل مخيمات النزوح داخل وطنه فلسطين، أو بين أزقة وبيوت متهالكة في مخيمات دول الشتات، إلى أن قرر العالم “المتحضر” تحويل قطاع غزة بأكمله إلى سجن كبير عقب الحصار المفروض عليه منذ عام 2007.
تفاصيل مشهد الرحيل، تعكس عناد وثبات صاحب المشهد، فقد رفض الاستسلام وأبى إلا القتال حتى آخر رمق في حياته، كما تميز إلى جانب شموخة وإبائه، بالذكاء إذ حرص على عدم إظهار وجهه، حتى لا يسعى أعداؤه إلى اعتقاله حيا، بل دفعهم دفعا إلى التخلص منه باعتباره مقاوما عاديا.
هذه الصفات وغيرها جعلت من السنوار، شخصية استثنائية، نجحت في إحداث تغيير هائل في مسار حركة حماس، وعموم مسيرة النضال الفلسطيني، الذي كان يتلاشى ويخفت صوته على وقع ارتفاع صوت التطبيع، دون مقابل، فلا دولة فلسطينية تلوح في الأفق، وليس ثمة تقدم ولو ضئيلا في ملف الأسرى، والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى يسير على قدم وساق وسط صمت عربي وإسلامي.
هنا يظهر السنوار بفكره الذي أنضجته سنوات السجن التي ناهزت ثلاثة وعشرين عاما، ليعمل على إعادة تموضع الحركة بشقيها السياسي والعسكري، استعدادا لقلب الموازين في المنطقة كلها.
فكان الأمر كما أراده الرجل، وبعد تخطيط بصبر وأناة، كان قرار “طوفان الأقصى”، ونجحت المقاومة في تحطيم السلك الفاصل بين الحقيقة والوهم، وأدركنا ساعتها أن عدونا الإسرائيلي صاحب سيرة أسطورية، وأنه ليس إلا نمر من ورق، ولولا أن تداركته الجيوش الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية، لجرفه الطوفان الذي أطلقه السنوار وقادة القسام.
في السابع من أكتوبر 2023 كانت لحظة الانكشاف الهائل، التي انتظرها “أبو إبراهيم” طويلا، لتدرك الشعوب العربية أنه كان يمكنها تبديد ذلك الوهم منذ سنوات طويلة، لكن غابت الإرادة وأشياء أخرى، فتمكنت أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
هذا هو السؤال الذي انشغلت به استديوهات التحليل في الساعات الأولى لإعلان نبأ الرحيل، وانبرى له كثيرون يرسمون سيناريوهات لمرحلة “الما بعدية”.
لكن تقديري أن مرحلة ما بعد السنوار، هي نفسها مرحلة السنوار، فلم يكن التحول الذي فعله بقليل، إنه تحول الفكر والحركة، زاده صلابة مشهد النهاية الأسطوري، إضافة إلى يقين جمعي بأن انكسار المقاومة لا يعني سوى تمكن المشروع الصهيوني وسيادته لعقود مقبلة.
لذا لا أتوقع أن يكون رحيل السنوار مدخلا للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى، كما ذهب إليه البعض، فهو لم يكن سبب التعنت، ليصبح رحيله مدخلا إلى انفراجة، فسبب فشل جولات التفاوض هو نتنياهو نفسه.
إن ميراث السنوار الذي نجح في تأصيله خلال الفترة البسيطة التي قضاها بيننا منذ الإفراج عنه (2011 – 2024) من الصعوبة بمكان أن يتخطاه الشعب الفلسطيني بسهولة.
لقد نجح الرجل من خلال حياته وتفاصيل مشهد رحيله، في الانتصار على قاتله.
طبت حيا وميتا أيها القائد المشتبك.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس