ترك برس

في عالمٍ تتباين فيه القيم والأخلاق، يظهر تاريخ الأفراد كمرآة تعكس خياراتهم وولاءاتهم، ويتجسد هذا التباين بشكلٍ صارخ في شخصيتي فتح الله غولن، ويحيى السنوار. فبينما غرق غولن في خياناته وارتبط اسمه بالتآمر ضد وطنه، سعى السنوار بلا تردد نحو الشهادة، متمسكًا بقضية وطنه وشعبه. وفقا لمقال كتبه السياسي والبرلماني التركي السابق ياسين أقطاي. 

وقال أقطاي في مقاله بصحيفة يني شفق إن "كل نفس ذائقة الموت، فهو القدر المحتوم الذي قضى الله به على كل المخلوقات. وها هو الإرهابي فتح الله غولن، الذي تورط في كل أشكال الخيانة والمؤامرات والانقلابات والقتل والأنشطة الإرهابية والأكاذيب والخداع والسرقة ضد تركيا، على مدار الـ12 عامًا الماضية قد لقي حتفه. إن ردود الأفعال التي أبداها الجميع فور سماع خبر وفاته، بل وحتى حول الأخبار المتداولة عن موته قبل حدوثه، كانت حقًا مشهدًا مليئًا بالعبر فيما يتعلق بالمصير".

وأضاف: "يموت الناس وتبقى شهادات من خلفوهم عنهم، وهذه الشهادات وإن لم تكن قطعية، إلا أنها تشكل انطباعات أولية عن حسناتهم وسيئاتهم. فلو مات غولن قبل أحداث 17-25 ديسمبر، لربما كان سيُعامل كوليّ أو قديس من قِبل الجميع. ولكن منذ تلك الأحداث، وصولًا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو، انقلبت كل التصورات الإيجابية السابقة، وتحول إلى رمز للشر والفساد".

ولقت إلى أن "قصة الإرهابي غولن، التي بدأت في الستينيات وانتهت بموته في أكتوبر/تشرين الأول في مستشفى أمريكي تحت حماية الولايات المتحدة الصهيونية، التي أعلنت الحرب على الإسلام والمسلمين بل وعلى الإنسانية جمعاء، تعتبر قصة مليئة بالعبر والدروس في جميع فصولها. إنها قصة معبرة تظهر إلى أي مدى يمكن أن تضلّ بوصلة المسلم عندما يفقد ولاءه أو يضعه في غير محله،. وهي كذلك مشهد عميق يظهر عبثية السعي وراء المكاسب المادية الزائلة والسلطة مقابل أن يبيع الإنسان علمه وقدراته التي وهبها الله له، وكيف أن نهايته تكون دائمًا خيبة أمل وندم".

وتابع المقال:

عندما يتبادر إلى ذهني اسم غولن مقترنًا بكلمة "موت"، لا يسعني إلا أن أتساءل عن مدى غياب الموت عن حساباته الدقيقة واستراتيجياته العميقة. فقد كان شديد التعلق بالحياة، مهووسًا بصحته لدرجة أنه كان يضخم أي عارض صحي ويحوله إلى دراما في خطاباته. فبحجة المرض، لجأ إلى الولايات المتحدة، وخلال حياته التي امتدت إلى 85 عامًا حوَّل أمراض الشيخوخة العادية مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم ومشاكل القلب إلى قضية عالمية. كان يعاني من "هوس المرض" أكثر من المرض ذاته، مما يعكس هوسه وارتباطه المفرط بالحياة. فقد قيل إنه منذ شبابه كان يتناول عشرات أقراص الفيتامينات يوميًا، وبناءً على خطاباته، لم يكن تصرفاته تعكس شخصًا يتوق إلى لقاء الله. فالتعلق بالحياة إلى درجة الرغبة في العيش لألف عام يُظهر شخصية تستبعد في جوهرها الآخرة ولقاء الله من حساباتها.

وقد نظر إلى نضال الفلسطينيين بازدراء لأنه لم يأخذ الموت بعين الاعتبار في حساباته، وكان يخشى الأقوياء والسلطات العالمية، وكشف عن خوفه باستمرار، مما جعله يعبد القوة ويجعلها مبدأ أخلاقياً. وتأرجح بين الخضوع والتملق للقوى الكبرى، وباع الشرف والمكانة السامية التي منحه الله إياها وهذه الأمة بثمن بخس من أجل البقاء، وفضل الذل على العز، وابتغى القبول والتقدير من أولئك الذين يظنهم الأقوى في العالم.

لطالما سعى إلى إرضاء المستكبرين أصحاب السلطة أكثر من سعيه إلى إرضاء المسلمين. وكان يخشى المتجبرين أعداء الله أكثر من خشيته لله. لذلك، لم يكن على وفاق مع الحركات الإسلامية في تركيا أو في أي مكان آخر في العالم حيث كان تنظيمه نشطًا. فقد حافظ دائمًا على مسافة من أربكان وحركة حركة الرؤية الوطنية في تركيا. وعندما وقع الانقلاب في 28 فبراير/شباط وقف بوضوح إلى جانب الانقلابيين. بل إن تحركاته كانت استراتيجية لدرجة أنها جعلت خطط الانقلابيين جزءًا من خططه هو. ولكن الهدف النهائي من كل هذه الاستراتيجيات لم يكن تعزيز قيم الإسلام في تركيا أو تقويته، ولا تجسيد رسالة الإسلام بعدله وحقيقته وجماله، بل كان تحقيق رغبته في السلطة إلى أقصى حد ممكن.

ولم يسعَ غولن لتطوير علاقات جيدة مع أردوغان إلا عندما ظهر أن أردوغان يملك آفاقاً فعلية وطويلة الأمد للسلطة. لكنه حتى في تلك العلاقة، لم يكن صادقًا أبدًا. فقد اقرب من أردوغان فقط لأنه كان قوياً، ولم يكن تقرّبه منه أردوغان لشخصه أو للحركة السياسية أو البرنامج الذي يمثله. والمثير للانتباه أن بداية افتراق الطرق بينه وبين أردوغان تزامنت مع شروع الأخير في اتخاذ موقف قوي لصالح القضية الفلسطينية ضد إسرائيل. فقد بدأ غولن يعبر عن استيائه في دافوس. وفي حادثة "مافي مرمرة" أعلن صراحة أنه يختلف مع أردوغان بشكل جذري حين قال"التحرك دون إذن من السلطة كان خطأً"، مُبلغاً بذلك القوى التي يخشاها أو يمثلها بأنه لا يساند أردوغان.

ومن المصادفات العجيبة أن غولن، الذي اعتقد أن القوة التي ستنقذه تكمن في الولايات المتحدة، توفي في مستشفى أمريكي كامل التجهيزات. وفي نفس اليوم كانت هناك صور أخرى تعكس مشهداً مختلفاً تماماً لموت آخر في العالم، لينكشف التباين الصارخ بين الحالتين، كتباين الليل والنهار.

نحن نتحدث هنا عن استشهاد القائد يحيى السنوار، أحد أبطال غزة الشجعان، والذي آمن يقينًا بأنه لا حياة لنا إلا تلك التي قدّرها الله لنا، وأننا لا نملك السيطرة على دقيقة أو ثانية من أعمارنا. السنوار، لقد قضى السنوار23 عامًا في سجون "الدولة الجنوبية" إسرائيل، التي كان يخشاها غولن وأمثاله، تحت وطأة التعذيب، وبعد استشهاد إسماعيل هنية، قائد الجناح السياسي السابق لحماس، تولى السنوار القيادة، وهو يعلم جيدًا أن هذا المنصب ليس امتيازًا دنيويًا كما يظن البعض، بل إنه طريق نحو الشهادة. لقد اختار هذا الطريق بوعي كامل وبكل رضًى وإخلاص.

كان السنوار يدرك تمامًا أن إسرائيل الصهيونية التي يخافها غولن وأمثاله ليست بشيء يستحق الخوف، وأن الله وحده هو المتحكم في حياة الإنسان وموته. ولأن السنوار كان مدركًا لهذا الأمر، واصل السير بلا تردد في طريق الكفاح الذي يتضمن الموت. ولذلك، أصبح استشهاده بمثابة بعث جديد للأمة، أشبه بالربيع الذي يأتي بعد شتاء طويل، ليجلب الأمل والراحة ويكون ومصدر قوة لجميع المظلومين في العالم.

ولو أننا سمعنا عن مثل هذا الموت ولم نشهده بأم أعيننا، لتساءلنا قائلين: هل يمكن أن يحدث مثل هذا؟ لكن الأمر تحقق تمامًا كما هو، وأظهر الله هذه الصورة للعالم أجمع، حتى من خلال كاميرات إسرائيل. وحتى آخر لحظة من حياته، كان يحيى السنوار يقاتل العدو، وهو جريح قد فقد يده اليمنى، وفي تلك الحاله ألقى بعصاه نحو طائرة العدو، ورغم أنها لم تصبها، إلا أنها أصابت قلوب المنافقين، وزعماء الكذب والنفاق، والظالمين، وكل من يهاب الموت.

وكان السنوار يقول إنه يخشى الموت ولكن في الحقيقة، كان يخشى الموت في الفراش، مثل الإبل العجوز التي تنتظر موتها، أو بسبب فيروس كورونا أو مرض آخر. لكنه لم يخشَ الموت أبدًا أثناء محاربته عدوه الذي كان يُعتقد أنه قوي للغاية، بل إنه بحث عن هذا الموت المشرف طوال حياته حتى ظفر به في النهاية. وقد مات كلاهما بالطريقة التي كانا يرغبان بها.

لكن لا شك أن موت السنوار يحمل معه شرفًا وفخرًا في هذه الدنيا، وحياة كريمة في الآخرة، أما موت الآخر فيجلب الذل والمهانة في هذه الدنيا، والخسران في الآخرة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!