طه كلينتش - يني شفق (16/11/2024)
عندما وطأت قدما القديس والدبلوماسي يوحنا غورزي، والذي أرسله الإمبراطور الألماني أوتو الأول سفيراً إلى قرطبة في خريف عام 953، أرض عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس ماذا كان شعوره حينها ياترى؟ كانت قرطبة في ذلك الوقت أكبر مدن أوروبا، حيث بلغ عدد سكانها 250 ألف نسمة، وكانت واحدة من أكبر ثلاث مدن في العالم إلى جانب القسطنطينية وبغداد. وكانت شهرة مساجدها وحماماتها وقصورها ومكتباتها قد انتشرت في كل مكان. وكانت شوارعها المرصوفة نظيفة، وكانت مضاءة حتى في الليل. وكان الشباب المسيحيون يتوافدون من جميع أنحاء أوروبا إلى قرطبة، معجبين بشدة بالثقافة الإسلامية، يرتدون العمائم ويشاركون في مجالس الشعر بهدف تحسين لغتهم العربية.
أما حاكم قرطبة آنذاك، فكان عبد الرحمن الناصر الذي يُعد من أعظم حكام الأندلس على مر التاريخ. وقد اعتلى عبد الرحمن الثالث العرش عام 912 وهو في العشرين من عمره فقط، واستمر في شن حملاته العسكرية ضد المسيحيين دون هوادة، وفي الوقت نفسه بدأ حملة تنمية واسعة النطاق في قرطبة والمناطق التابعة لها. وبعد ظهور خطر الفاطميين في شمال إفريقيا، تبنى لقب "الخليفة" في عام 929، وجعل قرطبة مركزًا للخلافة، وربط التجارة البرية بطرق التجارة البحرية، مما أدى إلى تدفق ثروات غرب البحر الأبيض المتوسط نحو قرطبة والأندلس.
كانت الرسالة التي أرسلها الإمبراطور الألماني مع القديس يوحنا غورزي مليئة بالعبارات المسيئة للإسلام والمسلمين، ولما أدرك عبد الرحمن الناصر حجم الفضيحة الدبلوماسية المحتملة، أمر مستشاره اليهودي حسداي بن شبروط، المستشار اليهودي الأول للخليفة عبد الرحمن الثالث، بإيواء السفير في أحد بيوت الضيافة بقرطبة، وأرسل على الفور طلباً للحصول على خطاب جديد من القصر الإمبراطوري في فرانكفورت. وبعد التحضيرات اللازمة استقبل عبد الرحمن الثالث السفير الألماني في قصر مدينة الزهراء، الواقعة بالقرب من قرطبة. لم يُذهل القديس يوحنا غورزي فقط من فخامة القصر وحدائقه البديعة، بل أثار إعجابه أيضاً تعقيد البروتوكولات في حفل الاستقبال.
توفي عبد الرحمن الثالث في 15 أكتوبر عام 961 بعد حكم دام 49 عاماً شهد فيه الأندلس ازدهاراً غير مسبوق. وخلفه على عرش قرطبة ولده المفضل وولي العهد، الحكم المستنصر بالله، الذي استمر في الحكم لمدة 15 سنة. وقد اشتهر الحكم بامتلاكه مكتبة ضخمة في قرطبة. ولكن الفترة التي تلت حكمه كانت فترة من الفوضى والاضطراب. وبحلول عام 1010، أدت حرب أهلية بين العرب والبربر في قرطبة إلى تدمير مدينة الزهراء بالكامل، فلم تبقِ حجرا فوق حجر. وكانت المدينة مبنية بأفخر أنواع الرخام والأعمدة التي جُلبت من مختلف أنحاء البحر المتوسط، من المغرب وتونس وحتى القسطنطينية، لكن هذه المواد الفاخرة سُرقت واستُخدمت في بناء مبانٍ أخرى بعد خراب المدينة.
واليوم، يواجه زوار مدينة الزهراء أطلالاً مترامية على مساحة واسعة، غارقة في الخراب والفوضى. أما الذين يعرفون تاريخ المكان، فيمكنهم بسهولة التعرف على قاعة استقبال عبد الرحمن الثالث للسفراء، ومسجد الجمعة، والواجهة ذات الأعمدة التي كان الخليفة يُحيّي منها جنده. ويتردد في أذهانهم حقيقة قاسية تنزل عليهم كالصاعقة؛ هذه المدينة العظيمة بنيت على أيدي المسلمين لكنها دمرت أيضًا على أيديهم.
في زيارتي هذه إلى الأندلس، لم أواجه فقط القصص الحزينة والسعيدة للمدن التي وطئت قدماي أرضها، بل أيضًا التغيرات والتحولات التي طالت الحياة اليومية هناك. فبعد أن كنا نجد صعوبة في العثور على أماكن تقدم طعامًا حلالًا في السنوات السابقة، أصبحت الخيارات متعددة ومتنوعة الآن. كما ازداد وجود المسلمين من مختلف الجنسيات في الأندلس بشكل ملحوظ. ففي غرناطة، يكتظ المسجد الذي بني عام 2003 مقابل قصر الحمراء بالزوار والمصلين. والأمر نفسه ينطبق على المسجد الصغير الواقع في شارع صغير مقابل المسجد التاريخي في قرطبة.
ولا يقتصر الأمر على المسلمين القادمين من المغرب العربي (المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا)، بل هناك أيضًا إسبان محليون اعتنقوا الإسلام وصاروا جزءًا بارزًا من هذا المشهد، حتى أن هناك بعض القرى والمراكز التعليمية الإسلامية التي أسستها بعض الطرق الصوفية في ضواحي غرناطة.
من المفرح والمبشر أن نرى الإسلام يعيد ترسيخ جذوره في منطقة كانت قد شهدت سابقًا طرد المسلمين منها، وأن فجر الإسلام بدأ يشرق مجددًا في تلك الأرض. هذه الحالة تذكرنا أيضًا بضرورة تبني منظور أوسع عند النظر إلى التاريخ. فإذا كانت الأمور التي كنا نراها مستحيلة قبل مئة عام أصبحت اليوم واقعًا أمام أعيننا، فمن يدري ماذا سيحدث بعد مئة عام من الآن؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس