علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر

الخيانة أخطر ما يواجه الجيوش التي تسعى للنصر وتحمل مشاعل التحرر إلى أوطانها.

يتعمد العدو أن يزرع بين صفوف الجيوش هؤلاء الذين يصبحون شوكة في ظهر الساعين لحرية أوطانهم، لم تأت خسارة جيش عربي أو إسلامي على مر التاريخ إلا عبر خيانة، تلك القاعدة يعتمدها كتّاب الدراما التركية في كل أعمالهم.

هي قاعدة بدراسة التاريخ ستجدها ماثلة من عهد النبوة والفتوحات الإسلامية حتى اليوم، وقد نخسر معركة ما، أو يستشهد قائد كبير، وقد نرضخ لاتفاق لا يقدّر ويساوي التضحيات نتيجة لفعل خائن وجاسوس من هؤلاء الذين تخلوا عن أوطانهم نتيجة لأطماع أو عمى بصيرة، وربما يرون أن هذا الاستسلام للقوة المتجبرة أفضل وسيلة للنجاة.

ملعون عار الخيانة

ملعون في كل كتاب يا عار الخيانة

 اللعنة والنار عاللي خانوا الأمانة

عاشوا على موتنا وموتهم حيانا

عليهم اللعنة في ترابنا وسمانا

أشعر بسحابة سوداء تمر وتعبر إلى أعماق القلب كلما تذكرت خيانة أدت إلى انكسار الأمة، فلا أستطيع النظر إلى صورة خائن أو جاسوس، هذا الإحساس البغيض والقاتل يجعلني أحيانا لا أستطيع استكمال حتى حالة درامية ممثلة أمامي، يحدث هذا حينما أهرب من أعمال درامية أتابعها مثل: المؤسس عثمان، فاتح القدس، والفاتح سلطان محمد، وهي أعمال درامية تلفزيونية تركية تُعرض الآن، الأول في موسمه الخامس، والثاني والثالث في الموسم الدرامي الثاني لهما، فما بالك بمن يتعرض لفعل الخيانة في الواقع وتصل إلى استشهاد قادة عظام من أبطال المقاومة، أو يعرّضون المقاومة لخسائر فادحة؟ إنهم الطابور الخامس لأعداء الوطن.

قد لا يشعر هؤلاء بمدى جرمهم حين يمارسون الدناءة النفسية في التعاون مع الأعداء ظنا منهم أنهم يحمون أوطانهم من الخراب والتدمير، لكن التاريخ علّمنا أن هؤلاء أدوات التدمير ذاته. في العمل الدرامي “عاصمة عبد الحميد” الذي يتناول العهد الأخير للسلطان عبد الحميد الثاني، تناولت الدراما كيف سقطت الخلافة نتيجة تغلغل الجواسيس للدول الأوروبية والصهاينة داخل قصر الخلافة، وكانت تلك الخسارة الكبرى للأمة الإسلامية ناتجة عن الخيانة من أفراد في القصر السلطاني، وتوغل الصهاينة في أرجاء العاصمة إسلامبول (إسطنبول).

كان عزم محمد الفاتح على فتح القسطنطينية قد وُلد معه طفلا صغيرا وصبيا، فقد كان حلمه الذي لا يمل من تكراره، وكان يدرك صعوبة الحال مع وجود أسوارها التي لم تفلح كل الجيوش الإسلامية في تحطيمها، وفي الجزء الثاني من مسلسل “الفاتح سلطان محمد” الذي تنتجه الشركة الوطنية التركية للإنتاج الدرامي.

عُرض من هذا العمل حتى الآن 24 حلقة، تصل مدة كل منها إلى نحو ساعتين ونصف الساعة، هذه المدة الطويلة للحلقة تجعلها أقرب إلى فيلم سينمائي يختص بإحدى حالات الطريق إلى الفتح. وفي الحلقتين 20 و21، أهم معركة يخوضها الفاتح على هذا الطريق الوعر شديد الصعوبة، ويمكنك أن تطلق على الساعات الخمس من العمل “التخلص من الجواسيس”.

لا يتعامل مؤلف العمل مع الكتابة بخفة، ولا يُظهر الأعداء بمظهر الضعيف أو عديم الذكاء، وتلك ميزة في أغلب كتّاب الدراما التركية، وهنا فالإمبراطور قسطنطين البيزنطي شخصية قوية جدا، محارب قدير وذكي، ومخطط فذ، يؤمن بقوة بشعبه وبدولته، وحوله رجال شجعان وأبطال حقيقيون لا يتأخرون عن الموت في سبيل ما يدافعون عنه، وهذه الشخصيات تصنع قوة الدراما. وعلى الجانب الآخر، محمد الفاتح حوله أيضا أبطال ورجال أقوياء يستشهدون في سبيل الدعوة والفتح، وتلك ميزة للدراما التركية التاريخية، فالقوة تجابه قوة مماثلة.

يتعرض جيش السلطان محمد للعديد من الضربات وهو يستعد للتحرك للفتح، ويشعر بأن قوة المدافع التي يصنعها وعزيمة رجاله لا تكفي لتحقيق النصر، فقد شعر بأن كل تحرك له يُنقل إلى الأعداء، وحركته مكشوفة أمام الإمبراطور قسطنطين، بل إن الأمر وصل إلى خسارة قوات وقادة في جيشه نتيجة هذا التغلغل الاستخباري بين من يحيطون به، وهناك من يتعامل مع عدوه من بين حكام الولايات المحيطة به، وكان على محمد الفاتح أن يعرف من هم الجواسيس داخل معسكره، ومن هم المتعاونون مع بيزنطة، ليقضي عليهم حتى يتحقق السلام لجيشه ويمضي نحو الفتح.

أعد محمد الفاتح خطته من خلال جواسيسه داخل القسطنطينية، ليعرف من هؤلاء الذين يخونوه ويجعلون كل تحركات جيش الفتح تحت بصر قسطنطين، ووصل إلى معظم هؤلاء الخونة بمساعدة رجاله في القسطنطينية، فحرب الجواسيس متبادلة، فلا نصر بلا معلومات، ولا نصر بلا تطهير.

اكتشف الفاتح أن مِن بين جنوده مَن هو جاسوس وُضع منذ زمن بعيد، وهناك أيضا مِن الحكام مَن يجد فرصة التخلص منه مساحة ليتولى العرش، وهناك قادة في الأسلحة يدينون بالولاء للقسطنطينية، وفي النهاية هناك بين قادته من هم مترددون وخائفون من الهزيمة وانهيار الدولة، وأيضا مَن هم مِن الدول المتحالفة معهم، ونجح الفاتح في القضاء على هؤلاء الجواسيس كي يمهد الطريق إلى النصر، فهل يتوقف العدو؟

يكتشف الفاتح جواسيس ليضع العدو جاسوسا بديلا، وما أقوى أن يزرع العدو جاسوسا نائما في صفوف المسلمين مدة طويلة، يختبئ بين المسلمين عشرين عاما، وعندما يحين دوره يظهر في ثوب المخلص الداعم للسلطان، ولا مانع من إضفاء بطولة عليه في معركة ينقذ فيها قائدا كبيرا أو حتى السلطان نفسه.

لا أدري لماذا تذكرت مقولة المفكر العربي عبد الوهاب المسيري عن “الصهيوني الوظيفي” وأنا أشاهد الحلقتين، وللتذكرة فهذه الشخصية متكررة في الأعمال الدرامية التركية، اليهودي الوظيفي الموجود بين المسلمين في ثوب المسلم، الذي يصلي ويعيش كأحد سادة المسلمين، ظهر هذا في قيامة أرطغرل والمؤسس عثمان، وها هو يظهر لنا في مسلسل الفاتح، ويظهر لنا كثيرا في الواقع الذي نحياه، ربما نجده في كثير من الأوطان العربية.

بلاطون معلّم قسطنطين وعقله المفكر، أحد علماء ومفكري القسطنطينية، يجد الإمبراطور بعد كشف معظم جواسيسه في حالة شديدة الصعوبة، يستدعي فرحات أحد سادة القبائل التركية، وهو مسيحي رفيق صباه عاش بين المسلمين كواحد منهم يؤدي الصلاة، ويخوض الحروب معهم، ويحمي حدود الدولة، إذَن فهو موثوق به تماما، ويأتي الدور له ليكون بجوار الفاتح ويصبح عينا للأعداء، وهكذا ومع إنقاذه لأحد القادة من الموت، وبمعرفة الصدر الأعظم له، يصبح في خيمة السلطان جاسوسا مقرّبا وموثوقا به.

الواقع أن شخصية بلاطون المفكر البيزنطي تواجه في العمل شخصية آق شمس الدين معلّم السلطان محمد، وأيضا زغانوس مفكره ومعلّمه، واستطاع قسطنطين أن يعرّض قوات المدفعية للمسلمين لضربة شديدة بتفجير أحد المدافع القوية، ثم يرسل معلّمه إلى الفاتح ليعرض عليه الصلح على أساس أنه فقد قوته الحقيقية في تدمير أسوار القسطنطينية.

في المشهد الدرامي يلعب المعلّم المفكر على الفريق المتردد بجوار الفاتح الذين لا يؤمنون بقدرته على تحطيم الأسوار، وقد نجح الفيلسوف في ذلك، لكن السلطان أفسد خطته وكشف المترددين، وقال جملته “في مملكتي القرار لي”، قد لا تعجب الجملة المتشدقين بالحرية والمشورة، لكنها جملة شديدة التأثير، ففي أوقات الحروب لا مجال للتردد ولا لتعدد الآراء، ولا مجال كذلك للخيانة والجواسيس، فالخلاص وتطهير الصفوف من الجواسيس أول طريق النصر، ورغم أن طريق الخيانة ممتد بيننا، فإن النصر قادم حتى لو استشهد الكثيرون أو توقفنا قليلا.

ملاحظة: الأبيات للشاعر المصري سيد حجاب من فيلم “كتيبة الإعدام”.

عن الكاتب

علي أبو هميلة

إعلامي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس