ياسين أقطاي - يني شفق

لقد بات العالم بأسره يدرك كيف عاش الشعب السوري طيلة 61 عامًا تحت وطأة نظام إجرامي مستبد، بعد أن كشفت الثورة عن الجرائم ضد الإنسانية في سوريا. إن فرحة الشعب السوري العارمة والحماس الذي أظهره بتحرره من قبضة الأسد يعد شاهدًا كافيًا على عقود الظلم التي قاسى منها، إلا أن الشهادات الأبلغ على هذا القمع تتمثل في نحو 12 مليون لاجئ سوري منتشرين في مختلف أنحاء العالم.

هناك قاعدة أساسية تقول: اللاجئ دائمًا يحمل معه إلى المكان الذي يلجأ إليه شهادة حية عمّا هرب منه، فهو صرخة من بقي في وطنه ولم يتمكن من الفرار، صرخة أولئك الذين ما زالوا يعانون القمع والظلم والظلام. والاستجابة لهذه الصرخة، سواء بالإصغاء لها أو بتجاهلها، تعكس مستوى القيم الأخلاقية والإنسانية التي يعيشها العالم.

ومع طول فترة بقاء السوريين في بلدنا على مر السنين، بدأ الكثير من الناس يُظهرون ضجرًا من "طول مدة الضيافة"، بدلًا من أن يسألوا عن الأسباب المروعة التي دفعت هؤلاء الناس إلى ترك وطنهم والتي تحول دون عودتهم إليه. فمن البديهي أن الإنسان، في ظل الظروف الطبيعية، يميل دائمًا إلى العودة إلى بلده. وإذا لم يتمكن من ذلك، فلا شك أن الوضع الذي هرب منه يستدعي تدخلًا إنسانيًا ومساعدة عالمية.

ألا يستوجب ما نشهده اليوم في سجن صيدنايا وغيره من السجون المُعلنة وغير المُعلنة، حيث مارس نظام الأسد شتى أنواع الانتهاكات ضد شعبه، أن يقوم كل إنسان بمراجعة ضميره نيابةً عن الإنسانية جمعاء؟ إن مشاهدة فرحة الشعب السوري، والإحساس بمعنى لحظة التحرر وما تحدثه من موجات اجتماعية عميقة، يُحتّم علينا أن نكون جزءًا من هذه الفرحة، وأن نفهم عمق هذا السعادة، وأن نخوض تجربة رؤيتها على أرض الواقع.

أكتب هذه الكلمات بينما أستعد للانطلاق نحو سوريا بعد مغادرتي جامعة إغدير، حيث ألقيت محاضرة تحت عنوان: "اختبار عالمنا في غزة: السياسة والمجتمع والعلوم". وبينما أستعد لهذه الرحلة، يأتي الحديث عن مؤتمر آخر أقيم في إحدى مدن تركيا الحدودية كجزء من نشاط ضمن هذا العنوان، ليشكل بالنسبة لي تزامنًا ذا مغزى عميق. أرى أنه من الجدير أن أبدأ حديثي بالإشارة إلى هذا التوافق المعبر.

إن حالة أي جامعة في الأناضول تقدم لنا صورة واضحة عن التطور التاريخي للجامعات في تركيا. وفي هذا السياق، تحتفل جامعة إغدير، بافتتاح العام الأكاديمي 2024-2025، وهي تشعر بالفخر لتحقيق ترتيب لافت في تصنيف مجلة تايمز للتعليم العالي للعام 2025 في مجال العلوم متعددة التخصصات، حيث احتلت الجامعة مرتبة تتراوح بين 351 و400 على مستوى العالم من بين 749 جامعة. وبذلك تكون قد أكدت مجددًا جودة أبحاثها المتعددة التخصصات على الساحة الدولية، لتصبح في المرتبة 16 بين 52 جامعة تركية ضمتها القائمة.

ويُشير الأستاذ الدكتور محمد حقي ألما، رئيس الجامعة وعضو "أكاديمية العلوم التركية"، إلى أن الجامعة تحتل المرتبة الأولى بين الجامعات الحكومية التي تأسست بعد عام 2008. وأضاف أن جامعة سيرت هي أكبر منافس لها، لا سيما في مجالات عدد الطلاب الأجانب، والتحول الدولي للجامعة، والدعم العلمي، والتخصص. وتجدر الإشارة إلى أن الجامعة تستقطب حوالي 790 طالباً دولياً من نحو 30 دولة، مما يعد دليلاً ملموساً على الثورات التعليمية التي شهدتها تركيا في العقدين الأخيرين.

لقد كتبت سابقًا عن هذا الموضوع، وذكرت أن تركيا أظهرت في مجال الخدمات، الذي يعد من أبرز القطاعات في العالم، تقدماً ملحوظاً في مجال التعليم الجامعي، حيث أطلقت مبادرة كبيرة توفر لها مزايا هائلة. من المؤكد أن لهذه المزايا بعض المخاطر، لكن في الوقت نفسه، تمثل خطوة هامة نحو الاستعداد لعالم المستقبل في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وتصدير التعليم الجامعي.

لا شك أن المرحلة الأكثر أهمية في تطوير الجامعات هي أن يظهر الطالب الجامعي الوعي الكافي في بعض القيم الإنسانية، ويجسد نوعًا من الجودة الفلسفية والقيّمة. وقد وضعتنا غزة في اختبار صعب للغاية. وكان الرد الذي قدمته الجامعات الأمريكية والأوروبية على هذا اختبار قد فتح آفاقًا جديدة ومبشّرة بالنسبة لمعنى الجامعة. ولكن الأداء الصهيوني الذي أظهرته إداراتها في هذا السياق يبرز كيف أن الجامعات تعمل تحت قيود وضغوط غير مرئية.

لا تتصرف غزة كضحية ببساطة، ولا تشير مقاومتها إلى ظالم يرتكب جرائم وحشية بحقها فحسب، بل تشير إلى نظام عالمي لقطاع الطرق يبتز العالم، ويخدعهم ويخفي الحقائق عن الناس، ويقتل ويكذب ويستغل ويخدع ويفسد الحرث والنسل وهو نظام مبني على الكذب. لا يوجد مكان في هذا العالم الأشبه بعصابة لم يقع تحت الاحتلال، ولا يوجد شخص لم يفقد حريته بطريقة أو بأخرى بدرجات متفاوتة. وربما الشعب الوحيد الذي استطاع البقاء حرًا في مواجهة هذا النظام المدمر هو شعب غزة، والمكان الوحيد الذي بقي حرًا هو غزة. ولذلك، تمثل غزة حجر الزاوية للعالم كله، وتُضيء شمعة أمل للحرية للجميع.

تمتلك الجامعة مساحة واسعة لتسليط الضوء على العديد من القضايا التي أبرزتها الثورة السورية وغزة التي مهدت لها الطريق، مثل الاحتلال والاستعمار والحرية والاستقلال، وضغوطات النظام العالمي والعلم، والقيود المفروضة عليه، والأوضاع المذلة التي يعيشها.

وأهم ما في ذلك هو شعور الطلاب الجامعيين بالاختبار الذي يتعرضون له أمام غزة، والعنصرية الصهيونية والإبادة الجماعية والظلم وأن يسعوا جاهدين لإيجاد الإجابة الصحيحة لهذا الاختبار.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس