ترك برس

أكد الكاتب الصحفي التركي عبدالله مراد أوغلو، أن سوريا تمتلك الإمكانية لتكون نقطة البداية لبناء "أرض السلام".

وذكر مراد أوغلو في مقال نشرته صحيفة يني شفق، أنه في الوقت الذي تحتاج فيه منطقتنا إلى أن تتحول إلى "أرض سلام"، لا تزال هناك قوى شريرة تتخذ من الفوضى والانقسام مشروعًا دائمًا لها. هدفها إبقاء الجراح مفتوحة والنزاعات مشتعلة. 

وأضاف الكاتب التركي: "لمواجهة هذه القوى التي أغرقت العالم بالدماء، لا بد من التحلي باليقظة والصبر، إلى جانب الاعتماد على الحكمة والبصيرة في اتخاذ القرارات".

و في ما يلي نص المقال:

افتقرت أنظمة "البعث" في العراق وسوريا إلى الشمولية، مما أدى إلى تحولها إلى أنظمة ديكتاتورية عسكرية. كان كل من صدام حسين وحافظ الأسد نتاجًا أيديولوجيًا لتلك الحركة، التي جعلت من الصراع الداخلي بين رموزها أمرًا محتومًا.

في ستينيات القرن العشرين، حينما استولى "البعثيون" على السلطة في دمشق وبغداد، سعوا إلى ربط الهوية الوطنية بجذور تاريخية تعود إلى العصور القديمة، متجاوزين أكثر من 1300 عام من التاريخ الثقافي والديني لشعوبهم. كان هذا التوجه بمثابة تجاهل تعسفي للواقع الديني والاجتماعي والثقافي لتلك الدول.

في ظل هذه الرؤية الضيقة، تغاضى البعثيون عن التجارب التاريخية العريقة مثل تجربة السلاجقة والعثمانيين، ولم يكترثوا لنيل رضا شعوبهم. ونتيجة لذلك، فشلوا في بناء إحساس بالانتماء الوطني لدى المواطنين. في جوهره، كان "البعث" يعكس أزمة حقيقية في مفهوم الدولة، وكانت هذه الأزمة سببًا في انهيار تلك الأنظمة.

مع سقوط نظام الأسد الذي انحدر إلى نظام قبلي، تدخل سوريا الآن مرحلة جديدة من إعادة البناء. بالنظر إلى التجربة المؤلمة التي دامت 61 عامًا تحت حكم "البعث"، يجب أن تكون هذه المرحلة شاملة وعادلة، تتيح لكل فرد في سوريا شعورًا بالأمان والانتماء. إن تحقيق هذا الهدف سيغير مصير سوريا ويؤثر بشكل مباشر على استقرار المنطقة بأكملها.

الشاعر الحكيم عاشق باشا، الذي شهد انهيار دولة "سلاجقة الأناضول" ونشوء الدولة العثمانية، يروي في عمله الشعري "غرائب نامه" قصة رمزية عن أربعة مسافرين يتحدثون لغات مختلفة، لكنهم يشتركون في الهدف نفسه. رغم ذلك، تفرقهم الخلافات والصراعات بسبب عدم قدرتهم على فهم بعضهم البعض.

هذه القصة ترمز إلى أهمية الحوار والتفاهم المشترك لبناء نظام جديد في سوريا، قائم على الشمولية والعدالة، كخطوة أساسية لتحقيق مستقبل مستقر ومستدام للمنطقة.

تروي الحكاية عن أربعة أصدقاء من جنسيات مختلفة: تركي، عربي، فارسي، وأرمني، عثروا أثناء رحلتهم على عملة نقدية (أقجة). وحين وصلوا إلى مدينة كبيرة، دبّ بينهم الخلاف حول كيفية إنفاقها لإشباع جوعهم. كان كل واحد منهم يرغب في شراء العنب، لكنهم عبروا عن ذلك بلغاتهم المختلفة، فلم يتمكنوا من فهم بعضهم البعض، مما أدى إلى شجار بينهم.

وقف سكان المدينة متعجبين من شجارهم، غير مدركين سببه. وفي النهاية، تدخل رجل حكيم فهم مرادهم وقال: "سآخذ هذه العملة وأحقق لكم جميعًا ما تريدون." ذهب الحكيم واشترى عنبًا من البستان، ووزعه عليهم. عندها أدرك الأصدقاء الأربعة أن هدفهم كان واحدًا، وأن حل مشكلتهم كان بسيطًا، وهو فهم لغة بعضهم البعض. وما إن تحققت رغباتهم حتى عاد الهدوء وعمت السكينة بينهم.

استخلص الشاعر الحكيم عاشق باشا من هذه القصة درسًا عظيمًا، ووسّع رسالتها لتشمل جميع الشعوب المختلفة التي أسماها "الأمم السبعين والاثنين"، في إشارة إلى كل البشر والكائنات. دعا عاشق باشا إلى الحوار لحل النزاعات، وإلى إقامة العدل، مشددًا على أن توحيد القلوب، رغم اختلاف اللغات، هو السبيل لتحقيق الطمأنينة والسلام.

في سوريا، يمكن إعداد "مائدة طويلة" تجمع الناس على المحبة والتفاهم، مائدة تُعيد الثقة وتمنح الطمأنينة لأولئك الذين فرقتهم الصراعات. المنطقة بأسرها بحاجة ماسة لتحويلها من "أرض النزاع" إلى "أرض السلام".

سوريا تمتلك الإمكانية لتكون نقطة البداية لبناء "أرض السلام". لماذا لا تكون سوريا نموذجًا للسلام الذي يعيد للمنطقة أملها واستقرارها؟ إنه سؤال يستحق التفكير والعمل لتحقيقه.

في الوقت الذي تحتاج فيه منطقتنا إلى أن تتحول إلى "أرض سلام"، لا تزال هناك قوى شريرة تتخذ من الفوضى والانقسام مشروعًا دائمًا لها. هدفها إبقاء الجراح مفتوحة والنزاعات مشتعلة. لمواجهة هذه القوى التي أغرقت العالم بالدماء، لا بد من التحلي باليقظة والصبر، إلى جانب الاعتماد على الحكمة والبصيرة في اتخاذ القرارات.

يجب أن تتحول مائدتنا المشتركة إلى "مائدة للمعرفة والحكمة"، لأن العمل القائم على الحكمة يفتح أمامنا الأبواب المغلقة التي كانت تبدو مستحيلة.

الحكمة والتفكر هما أساس تحقيق النظام والاستقرار. أما قوى الشر، فإنها تعجز عن بناء أي نظام حقيقي، فهي لا تعرف سوى التدمير ولا تملك القدرة على الإبداع أو البناء. على غرار الأسطورة الشهيرة عن الملك ميداس، الذي كان يحول كل شيء يلمسه إلى ذهب، تبدو قوى الشر في عصرنا وكأنها تعاني من "تأثير ميداس العكسي"، حيث تفسد كل شيء تلمسه. يدمرون بلا قدرة على البناء، لأنهم يفتقرون إلى الحكمة، وتفكيرهم منحرف ومشوه.

كما قال المؤرخ الروماني تاكيتوس في كتابه "أغريكولا" على لسان كالغاسوس واصفًا الغزاة الرومان: "يسمون النهب والقتل والسرقة إمبراطورية، ويحيلون الأراضي إلى صحارى ويطلقون على ذلك سلامًا."

إن الجراح العميقة التي خلفتها الصراعات في سوريا والعراق تشهد على ما أحدثته أيديولوجيات مدمرة وسياسات شريرة. نحن بحاجة إلى بناء مجتمعات جديدة في هذه الدول، قائمة على أسس العدالة والسلام، بعيدًا عن تأثير تلك القوى التي لا تجلب سوى الخراب.

بتضافر الحكمة والتفكر، يمكننا إنشاء نظام جديد يعيد للمنطقة استقرارها، ويجعل من سوريا والعراق نموذجًا يُحتذى به في بناء السلام والتنمية المستدامة.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!