د. محمد الصغير - الجزيرة مباشر
عدت من عزاء صاحب الغربة، وأنيس الوحشة، وسمير الجلسة، الفنان الساخر محمد فوزي، الذي اشتهر بنسبته إلى باكوس، منطقة سكنه في محافظة الإسكندرية، وكان هذا العزاء على غير مثال سبق، فيما شهدته طوال حياتي في أماكن التعزية، والسبب في ذلك يرجع إلى أن عادة التأبين أن تُذكر مناقب المتوفى ومواقفه، وأعظم مناقب محمد باكوس كانت في إدخال البهجة على النفوس، وأبرز مواقفه هي أجمل طرائفه، فكل من استدعى موقفا له مع باكوس، اختلط عنده شعور الفقد بفكاهة الفقيد.
محمد باكوس مفطور على الفكاهة بلا تصنع، ومطبوع على خفة الظل بلا تكلف، وتميز بأن مُلحه من الواقع ومتعلقة بمحيطه أو بمن حضر، فلا يذكر غائبا، ولا يحرج حاضرا، وكنت أرى أن الله عصمه ونجاه، من الانخراط في عالم الفن والتمثيل، على ما عرض عليه من أرباب هذه الصناعة الكبار، الذين اكتشفوا موهبته الفطرية، التي سخرها للسخرية من الواقع المرير، وإيصال معاناة المهمشين والكادحين، الذين يفتخر دائما بالانتساب إليهم، والحرص على أن يكون هو من يمثلهم، وكنا لا نمل أن نطلب منه بين الفينة والفينة، أن يذكر لنا عدد المهن والأعمال التي تقلب بينها، والتي أوصلها إلى ثلاثين.
نشأ محمد باكوس يتيما، وتولت والدته تربيته مع إخوته الأربعة، وكان وفيا لها، وفخورا بهم وبتفوقهم جميعا، وترك فيه اليتم -كعادة النبلاء- رقة مع الجميع، وعطفا على المحتاج وتقديرا لأصحاب الحاجات، وكما قال الشاعر: واليتم نبل بعضه وذكاء.
كان محمد باكوس متفضلا عليّ في صحبته، نتحلق جميعا حوله ونتجمع على قصصه الجديدة والقديمة، وربما طلبنا منه إعادة ما سبق، لأنه يحكيه من زاوية جديدة، ويضيف له جملة من المعاني الفريدة، وكان مجلسنا في يوم الأحد، ولا يَسمح فيه بالكلام لأحد، واستطاع الوصول إلى ذلك من خلال قاعدة أرساها، بأن جلستنا جلسة أخوية اجتماعية، فلا حديث فيها عن قضايا دينية، أو مسائل سياسية، ولما سئل عن تفسير ذلك قال: لأن عامة الحضور يجيدون الحديث فيهما ولن يتبقى لي الوقت الذي أريده، فدخلنا معه في فصال وجدال حتى انتهينا إلى نسبة 80% له، والباقي للحضور، ثم اقترح رحمه الله التنازل عن خمس دقائق من وقته، لختام المجلس بنصيحة أو حديث شريف، ثم زادت نسبته عن الثمانين لتنازل الإخوة الأطباء له عن حصتهم في الحديث.
خفة الظل والبديهة الحاضرة والحرص على الفكاهة مما اشتهر عن المصريين، لكن محمد باكوس كان مثالا فريدا في ذلك، وكانت قمة إبداعه في ارتجال الفكاهة أثناء الحديث، وتحويل أي موقف إلى فكاهة، وهذا سر تعلقنا به جميعا، وكنت أرى في باكوس أن كل واحد منا يجد فيه الجزء الذي تركه في مصر، فكما أن بعض المأكولات ارتبطت عندنا بأماكنها، وبعض المشروبات لا نجد مذاقها الطبيعي إلا في محلها، كان محمد باكوس هو الجزء الوحيد الذي خرج من مصر معنا، والشخص القادر على أن ينقلك فعلا إلى حي الأزهر أو باب الحديد في القاهرة، أو إلى منطقة باكوس ومحطة مصر في الإسكندرية، ومن هنا كان عظم الفقد، فلم نفقد شخصا واحدا، وإنما فقدنا مصر المصغرة التي كانت بيننا، وهذا الشعور يشاركني فيه كل من عرف محمد باكوس أو جلس إليه، ولكن على المستوى الشخصي، مثل لي فقد باكوس هزة نفسية وترك جرحا غائرا، وأسأل الله الذي امتحنني به، أن يعظم أجري فيه، وذلك لأمرين:
الأول: للمنزلة التي منحها لي من نفسه، واعتباري أخا له في خاصة مشورته، وإيداع سره عندي، واطلاعي على خفايا أعماله الصالحة.
ثانيا: حرصه على لقاء الأحد الذي توفي قبله بيوم، واتصاله أكثر من مرة للترتيب له، ثم طلب لأول مرة أن أطلعه على أسماء الضيوف، فأخبرته ثم سألته عن السبب، فقال أخشى أن يأخذكم الحديث عن انتصار ثورة سوريا وتجوروا على وقتي، فقلت له نحن على العهد يا أبا كريم، أنت صاحب النصيب الأكبر، فقال: من أجل سوريا أنا النصف وأنتم النصف، ولكني أخشى من اثنين هما الدكتور سليم عزوز وسأرتب أن أحضره بسيارتي لأنه صعيدي أصيل وسيقدر الجميل، والثاني الدكتور عصام عبد الشافي وطلب مني أن أتولى أمره، وبالفعل اتصلت بالدكتور عصام واتفقنا على قسمة الوقت نصفين، ثم طلب باكوس أن يتولى دعوة الدكتور علاء صادق بنفسه، حيث كان يعامله معاملة لا يعامل غيره مثلها، وكنت سألته عن سر ذلك فقال: المقامات محفوظة، ودكتور علاء كان نجما قبل أن يعرفنا أحد، وكانت آمالنا أن نلتقط صورة معه “ومتنساش إنه اسكندراني”، وكان باكوس عاشقا للإسكندرية وأهلها.
وعلى ذكر الأهل فمحمد باكوس له ثلاثة أولاد: كريم وسارة وشهد، وما رأيت أبا كريم يتحدث وصوته مخنوقا وكلماته متهدجة إلا وهو يقول: “فرح كريم قرب، ونفسي أحضر فرح كريم”، فقلت له وما يدريك، لعل فرح كريم يكون مع الفرح الكبير ونحضره جميعا، ثم فارق بعدها الحياة بأزمة قلبية، وغصته في قلبه على فراق زوجته وولده، لأن كريم ووالدته مُنعوا من السفر إلى الدوحة في العامين الماضيين، وأعيدت لهما جوازات السفر بعد الوفاة فقط، ولم يتمكنا من حضور الجنازة، وسعت شبكة الجزيرة بجهد مشكور فأحضرتهم لحضور العزاء، وبقي الأمل في الله أن نحضر فرح كريم، وعندها نكون قد رددنا واحدة من ديون الفرح، التي أدخلها على نفوسنا محمد باكوس رحمه الله.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس