
د. محمد الصغير - الجزيرة مباشر
مع ذكرى مرور عامين على «طوفان الأقصى»، تم الاتفاق في مدينة شرم الشيخ على إيقاف الحرب على غزة، بعد موافقة حركة حماس على الملامح العامة لـ«خطة ترامب» عبر وسطاء من دول عربية وإسلامية. ولم يكن أكثر المتفائلين بالمقاومة يتوقع صمودها طوال هذه الفترة. ومع بداية الحرب، كان يُقال إن رجال المقاومة على أتم الاستعداد لخوض المعركة سنةً كاملةً، من باب ذكر أطول الآجال، واستنادًا إلى أن الحروب السابقة لم تتجاوز مدَّتُها شهرين. ومع دخول الدول الكبرى على الخطّ ومشاركتها فعليًّا في ميدان القتال إلى جانب جيش الاحتلال، بقيت المقاومة ثابتة في أماكنها، وقادرةً على إيقاع الخسائر في جنود عدوها وعتاده؛ بل حاولت أكثر من مرة أسر جنود جدد، كان آخرها قبل يوم واحد من اتفاقية وقف إطلاق النار.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ومن أجل الحكم بالنصر أو الهزيمة، لا بد أن ننظر إلى المعركة من كل جوانبها. فالأبجدية العسكرية تقول إن الجيوش النظامية تنتصر بتحقيق أهدافها من الحرب، أما انتصار حركات التحرر الوطني وكتائب المقاومة فيكون بمنعها للجيوش الغازية من تحقيق أهدافها. وبتطبيق هذه القاعدة على حرب غزة، يظهر لنا أن أهداف الاحتلال المعلنة تلخّصت في: القضاء على حركة حماس، وتغيير شكل المنطقة في اليوم التالي للحرب، وإنقاذ الأسرى الذين أسرتهم المقاومة. ومن اللحظة الأولى وطوال عامين، أعلنت المقاومة الفلسطينية أنه لا عودة للأسرى إلا مع إيقاف الحرب وإبرام صفقة تبادل لإخراج المعتقلين الفلسطينيين. والحاصل أن نتنياهو لم يحقق شيئًا من أهدافه، وأنهم رجعوا للتفاوض مع حماس، التي تفاوض منطلقةً من ثوابتها ومبادئها، وينتظر الكلُّ ردها المتأنّي على ما يُطرح عليها. وقد حقّقت حماس أهداف ضربتها الاستباقية بنجاح، حيث أوقفت عمليات هدم وتخريب المسجد الأقصى، وأوقفت قطار التطبيع الذي كان سينطلق من عواصم كبرى لها أحجام وازنة.
كذلك، ميزان النصر في الإسلام له صورٌ متعددة، من أبرزها الوفاء بالعهد والثبات على المبدأ، كما في قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 23). والمقصود بـ«قضى نحبه» في الآية أي وفّى نذرَه وحقق عهده. ونزلت هذه الآية في أعقاب غزوة أحد، فاشرأبت أعناق الصحابة لمعرفة من الذي عنَاه القرآن بهذا الوصف، فلقّنوا أعرابيًّا السؤال فسأله رسول الله ﷺ فأعرض عنه حتى دخل من الباب رجل، فقال رسول الله ﷺ للسائل: «هذا الذي قضى نحبه». فنظر الناس فإذا هو طَلْحَةُ بنُ عبيدِ الله. لذا كان أبو بكر رضي الله عنه يقول: «أحد كله لطلحة». وعلّق عثمان بن عفان بقوله: «طلحة ممن قضى نحبه، وأنا ممن ينتظر».
وحالة الحرب على غزة أشبهت غزوة الأحزاب، التي ختمها الله بقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَىٰ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (الأحزاب: 25). وبالنظر إلى الأهداف، فإن الصهاينة لم ينالوا خيرًا ولم يحققوا هدفًا؛ فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم * كباطلٍ من جلال الحق منهزم.
ومن هنا كان الفرح المشروع بثبات المقاومة وبسالتها، وصمود شعب غزة الذي ظهر على نحو لم يسبقه مثال: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 4–5). الفرح مع الحذر هما شعار المرحلة، وينبغي أن نحافظ على هذا الاتزان، وأن يكونا كجناحي طائر. فهذا الفرح لا ينافي الحذر، لأننا على يقين من غدر العدو ونقضه للعهد، وهي صفة وبيئة وعادة دنيئة تجري في جينات القوم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} (الأنفال: 55–56). والتعبير القرآني الصريح يستخدم ألفاظ التأكيد والعموم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 100). فإذا عاهد فريقٌ، غدر الفريق الثاني. وفي المقابل، فإن تمام الوفاء من الإيمان، ولا إيمان لمن لا عهد له.
وقد ورد عن رسول الله ﷺ: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، يجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم». ولما أجارت أم هانئ بنت أبي طالب رجلًا في فتح مكة، وقالت لرسول الله ﷺ: «قد أجرت فلانًا، وإن عليًّا يزعم أنه سيقتله»، قال رسول الله ﷺ: «قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ». وكتب أبو عبيدة بن الجراح -وهو قائد في جيش عمر رضي الله عنهما- يسأل عمر: «إن عبدًا أمّن أهل بلد في العراق؟»، فكتب إليه عمر: «إن الله عظيم الوفاء، فلا تكونوا أوفياء حتى تفوا… فوفّوا لهم وانصرفوا عنهم».
وأصبح يتردد الآن هذا السؤال: ماذا فعل الطوفان؟ إضافة إلى إيقاف هدم الأقصى وإيقاف قطار التطبيع، فإن معركة «الطوفان» هي نقطة فاصلة وبداية فعلية لمشروع التحرير، الذي لا بد له من جولات كما هو ثابت في سجلات التاريخ؛ التاريخ سجّل أن العاقبة دائما لأصحاب الحق وإن طالت المدة. فإن أمتنا هي صاحبة أطول مشروع تحريرٍ، نتج عنه مليارات التضحيات عبر قرون؛ ففي نضالات التحرر المعاصرة أمثلة جليّة: هزمت الجزائر فرنسا بعد صراع طويل، وهزمت حركاتٌ أخرى قوى احتلالٍ معتبرة. وفي الحاضر القريب، انهزمت أمريكا ومعها حلفاؤها في مشاريع احتلال طويلة الأمد، واستطاعت حركة طالبان توحيد كل التراب الأفغاني بعد حروب استمرت عقودًا.
وقد ذكر شيخ المجاهدين الأستاذ المؤسس أحمد ياسين في شهادته على العصر (1998) بشارة بزوال الاحتلال الصهيوني بدايةً من عام 2027. وكنت ممن لا يتوقف عند هذه البشارة، لا أنكرها ولا أنساها، حتى حدث «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر 2023. وبعد عامين، وفي 7 أكتوبر 2025، جلس العالم يتفاوض مع حماس على إيقاف الحرب. وعندها ترددت البشارة في نفسي ولهج بها لساني، وأصبحت أنتظرها في 7 أكتوبر 2027.
ومما يمدّني بهذا اليقين أن أصحاب سؤال «ماذا فعل الطوفان لفلسطين؟» هم أنفسهم الذين قالوا سابقًا: «ماذا قدمت الثورة لسوريا إلا الدمار؟» والآن نردُّ بكل افتخار: إن باب الحرية الذي دقّه السوريون، وخضبته دماء شهدائهم، فُتح على مصراعيه، وملأ كل سوريٍّ من هواء الحرية رئتيه. وهذا ما جعل قائد الطوفان يردّد قبل استشهاده ذات الشعار: «وللحرية الحمراء باب * بكل يدٍ مضرجةٍ يدق».
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس