د. محمد الصغير - الجزيرة مباشر
نادرا ما تغلبني دموعي وأستسلم لجيش الأحزان، ومن المرات التي لم تفارقني فيها الغصة، وكنت أشرق بريقي، لحظة إلقاء القبض على سجناء سجن جلبوع، الذين حفروا نفق الحرية بأناملهم وأدوات الطعام، واستطاعوا هزيمة كل أجهزة الاحتلال.
ومع أننا تعودنا على أخبار الاعتقال، ولا يفت في عضدنا ارتقاء الشهداء، فإن اعتقال زكريا الزبيدي ورفاقه، كان يوما فارقا في مسار الصراع مع الاحتلال، وكان سببا لاستسلام النفس لسحابة الحزن، وانكسارها أمام جحافل الهم، ومرد ذلك إلى أمرين:
الأول: أن هؤلاء الأسرى ذاقوا طعم الحرية لساعات، كلفتهم مشقة تنوء بها الجبال، وتعد في دنيا الواقع ضربا من الخيال.
الثاني: أن هزيمة الاحتلال بهذا الهروب الكبير كانت مدوية مذلة، لكنه استطاع بعدها لملمة بعض ما تبعثر من كرامته.
حتى جاء طوفان الأقصى حماية للقدس الشريف، وفكاكا لأغلال المعتقلين، وأعلن في بدايته أبو عبيدة الفارس الملثم الناطق باسم حماس، أنه عندما تضع الحرب أوزارها، ويتم تبادل الأسرى، سيكون سجناء جلبوع في مقدمة الأسرى المحررين، وبالفعل وفى أبو عبيدة نذره… مع أن الجميع يعلم أن رموز سجناء جلبوع ليسوا من المنتسبين إلى حركة حماس، وليس هذا جديدا على أبناء القسام وتلاميذ أحمد ياسين، ورأينا في المراحل الأولى خروج أحرار سجن جلبوع، وكيف حملهم شعب فلسطين على الأعناق.
إن قياس معركة التحرير التي أطلقتها حماس في السابع من أكتوبر، والأهداف التي توختها من ورائها بالمقاييس العادية، لن يؤدي إلى نتائج يقبلها العقل المجرد، وأصدق مثال على ذلك ما أجابت به بيوت الخبرة العالمية عن حل مشكلة زيادة عدد الراغبين في الحج، على السعة التي تستوعبها المشاعر المقدسة، فمنهم من اقترح عمل الحج أربع مرات مع فصول السنة، ومنهم من قال: لماذا لا ينظم في أكثر من محافظة في وقت واحد، كما يحدث في مباريات كأس العالم؟
وغاب عن هؤلاء الخبراء أن فريضة الحج مرتبطة بشرف الزمان وقداسة المكان، وكذلك الأمر في طوفان الأقصى، فإن إقصاء البعد الديني عن الموضوع لن يصل بصاحبه إلى نتيجة صحيحة، لأن المفكر خارج مظلة القداسة، لن يدرك أن هدم كل المدن وارتقاء جميع القادة هو من جملة الأثمان، التي تقدم في سبيل تحرير أحد المساجد الثلاثة المشرفة في الإسلام، الذي أُسري بخاتم المرسلين ﷺ إليه، وفيه صلى إماما بالأنبياء، وكذلك الدفاع عن الأرض من سمات الأحرار في كل عصر، فكيف إذا كانت الأرض المحتلة فيها قبلة المسلمين الأولى، وفيها تكون خلافة المؤمنين الأخيرة، وهي درة تاج بلاد الشام أرض المحشر والمنشر، ولا يقدم آلاف المسلمين أرواحهم مقابل فك أسر بضع مئات من المعتقلين، ولا يكون هذا مكافئا وموازيا إلا إذا كانت الصفقة في أول بنودها رضا الله والجنة.
ويكفي أن نتائج طوفان الأقصى قد قضت على الأراجيف والأباطيل التي يشغب بها المبطلون على المجاهدين، لاسيما ما يخرج من أبواق صهاينة العرب، لأنه كما قال طرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
فقد استشهد كبار القادة وهم في مقدمة الصفوف، وكذب من قال إنهم في أمان الأنفاق والناس تقتل في الطرقات، وإن الذي حافظ على أرواح الأسرى، لأهون عليه أن يحافظ على حياة القادة، ولو كانوا يتترسون بالأسرى كما قال المتخرصون لكانوا الآن ممن يتابعون عملية التبادل، لكن القيادة التي أخذت قرار المبادرة، هي التي أخذت قرار المواجهة، ولن يستطيع غير الفاقهين إدراك أن حرص هؤلاء القادة على نيل الشهادة، أكبر من حرص القاعدين على الحياة.
رأينا أهل شمال غزة يعودون إليه وهم يعلمون أنه لا يوجد هناك إلا بقايا الذكريات، وجذور تنتظر أن تنبت من تحت الركام، ولو فتح باب الهجرة إلى بلاد الغرب أمام شباب دول عربية ممن قبلوا بالسلام، كما عرض على أهل غزة، لما بقي فيها إلا الأطفال والعجزة!
والأصل في غزة وعامة أهل فلسطين، أنهم إن تشبث الناس بأرضهم مرة، تشبثوا هم ألف مرة.
وحتى نقرب الأمر ونأخذ بيد من يريد الفهم، نقف مع نموذجين:
الأول:
لقائد كتائب القسام الشهيد أبو خالد محمد الضيف، الذي ملأ الدنيا شهرة، ولا يعرف الناس إلا صوره القديمة قبل عقود، وكيف حاول الاحتلال اغتياله سبع مرات ونسج حوله الأساطير، ثم تخرج زوجته وأولاده بعد إعلان نبأ استشهاده ليقولوا كنا نعيش كحال أفقر أهل غزة ونحيا بينهم، وكان القائد يتقاضى أقل من راتب أحد جنوده، وكل من رأى بيتهم على الشاشات لا يشك في ذلك، ولم يكن لهم تدابير حماية إلا التعامل بالأسماء المستعارة، ومع استشهاد رب الأسرة عاد لهم أغلى اسم، يتشرف كل حر على وجه الأرض بالانتساب إليه، فهل يفهم من يسألون عن صورة النصر في غزة، أن محمد الضيف عاش ضيفا في بيوت غزة حتى أصبح ضيف الرحمن؟
النموذج الثاني:
المغوار يحيى السنوار صاحب الطوفان وقائد غزة، من كان يصدق أن الرجل يقود جنوده وهو بينهم، ويرسم خططه على السطح وينفذ معهم على الأرض، حتى لقي الله حميدا شهيدا، وهو يطرق باب الحرية، ويطلق مشروع التحرير، مدركا تبعة ذلك ومغبته، ولسان حاله يقول “وعند الصباح يحمد القوم السُّرى” وسمعنا لسان مقال يردد:
وللحرية الحمراء باب * بكل يد مضرجة يدق
وكأني بأبي تمام وقد كشفت له حجب الزمان، فقال هذه الأبيات في أبي إبراهيم:
فَتًى ماتَ بَينَ الضَربِ وَالطَّعنِ ميتَةً
تَقومُ مَقامَ النَصرِ إِذ فاتَهُ النَصرُ
وَما ماتَ حَتّى ماتَ مَضرِبُ سَيفِهِ
مِنَ الضَربِ وَاعتَلَّت عَلَيهِ القَنا السُمرُ
وَقَد كانَ فَوتُ المَوتِ سَهلاً فَرَدَّهُ
إِلَيهِ الحِفاظُ المُرُّ وَالخُلُقُ الوَعرُ
وَنَفسٌ تَعافُ العارَ حَتّى كَأَنَّهُ
هُوَ الكُفرُ يَومَ الرَوعِ أَو دونَهُ الكُفرُ
فَأَثبَتَ في مُستَنقَعِ المَوتِ رِجلَهُ
وَقالَ لَها مِن تَحتِ أَخمُصِكِ الحَشرُ
غَدا غَدوَةً وَالحَمدُ نَسجُ رِدائِهِ
فَلَم يَنصَرِف إِلّا وَأَكفانُهُ الأَجرُ
تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمرًا فَما أَتى
لَها اللَّيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ
لم يكن يحيى السنوار من الأسماء المشهورة، لأنه اعتقل أكثر من عشرين سنة، ولم يكن في كاريزما خالد مشعل، ولا درجة عبد العزيز الرنتيسي، أو مكانة إسماعيل هنية، لكن الله جمع له ذلك كله في مشهد استشهاده، حتى أصبح أيقونة تذكر مع من صنعوا التاريخ، وألسنة الخلق أقلام الحق، فقد تواتر على ألسنة الناس ما كتب على لافتة كبيرة في مدخل مدينة الزاوية في ليبيا “إذا كنا لم نعش زمن المختار، فقد عشنا زمن السنوار”.
وقد أعدم عمر المختار قبل تحرير ليبيا، لكنها تحررت بمشروع التحرير الذي عاش له، واستشهد في سبيله، وحمله من بعده تلاميذه، وكذلك فعل الصف الثاني من أبناء حماس، أولئك الذين حملوا الراية، وأكملوا المعركة بعد استشهاد القادة، ولم يعلنوا الخبر إلا بعد تمام الصفقة، التي أشرفوا هم على تنفيذها ونجاحها، وكأن القادة ما زالوا بينهم، لأن من أهم علامات القيادة الرشيدة، تأهيل الكوادر القادرة على إكمال المسيرة.
إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ
قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس