ترك برس
رأى الخبير والمحلل السياسي التركي سليمان سيفي أوغون، أن هناك "صراع بين الأطلنطي والباسيفيك"، وأن هذا الصراع يمثل فرصة ثمينة لتركيا لإعادة إحياء دورها في منطقة البحر المتوسط.
وقال أوغون في مقال بصحيفة يني شفق إن النواة الأنجلو-أمريكية تتعرض للتصدع، وإن أمريكا الباسيفيك تنفصل عن أمريكا الأطلنطي. وإذا نجحت أمريكا الباسيفيك في ضم روسيا والهند، مع تعزيز سيطرتها على القطب الشمالي، فإن العالم الذي يهيمن عليه الأطلنطي سيصبح جزءًا من الماضي. وهذا قد يعني نهاية أوروبا كجزيرة وقارة.
واستبعد الكاتب التركي صدور نتائج إيجابية على المستوى العالمي من إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، مشيرا إلى أن العلمانية المتشددة لإدارة بايدن أصبحت مثيرة للاشمئزاز ومزعجة للغاية، لدرجة أن رؤية ترامب يتصدى لها بجموحه غير المبالي قد تبدو للبعض مثيرة للاهتمام.
وفيما يلي نص المقال:
سلّمت إدارة بايدن السلطة رسميًا إلى ترامب في 20 يناير/كانون الثاني الجاري. أرى أن استقبال هذا الحدث بشيء من الارتياح أمر منطقي، لأن انتظار عودة ترامب كان أكثر إرهاقًا من وصوله نفسه. يعود ذلك إلى موجة التكهنات الفارغة التي أطلقها البعض بشكل متكرر، وغالبًا ما تحولت إلى سيول من الادعاءات مثل "عندما يعود ترامب، سيحدث كذا وكذا". هذه الادعاءات أصبحت مزعجة ومملة لدرجة دفعت الكثيرين للقول: "ليحدث ما سيحدث الآن".
ومع ذلك، لا أتوقع أي نتائج إيجابية على المستوى العالمي من إدارة ترامب. لقد أصبحت العلمانية المتشددة لإدارة بايدن مثيرة للاشمئزاز ومزعجة للغاية، لدرجة أن رؤية ترامب يتصدى لها بجموحه غير المبالي قد تبدو للبعض مثيرة للاهتمام. ومع ذلك، يجب الحذر من السماح لهذه الإثارة بالتحول إلى "ترمبية"، لأن إدارة ترامب بحد ذاتها لا يمكن الدفاع عنها بأي شكل.
من المهم أن ندرك أن المرحلة المقبلة تنطوي على مخاطر كبيرة، وقد تجعلنا أحيانًا نتحسر على عهد بايدن، حيث قد نشهد مواقف أكثر تعقيدًا وخطورة مما نتوقع.
المشاهد التي رافقت مراسم تسليم السلطة كشفت عن ملامح المستقبل القريب وما قد يشهده العالم خلال السنوات الخمس المقبلة. لدينا الآن إشارات واضحة حول ما قد نواجهه. أود تسليط الضوء على إحدى النقاط المهمة التي برزت خلال هذا الحدث.
أبرز ما لفت الانتباه في مراسم التسليم كان تركيبة الحضور المدعوين. فقد كان بين الحاضرين شخصيات بارزة تدعم ترامب، خاصة من مجال التكنولوجيا المالية (FinTech). وجوه لامعة مثل إيلون ماسك، مارك زوكربيرغ، وجيف بيزوس اجتمعت في الصفوف الأمامية. هذا المشهد يعكس بوضوح دعم رموز التكنولوجيا الحديثة ووادي السيليكون لترامب.
بالطبع، ليس الجميع في عالم التكنولوجيا يدعمونه، فقد كان بيل غيتس من بين الغائبين. ومع ذلك، لا أعتقد أن غيابه يحمل أهمية كبيرة. يبدو أن قطاع التكنولوجيا، ومعه الدوائر المالية التي تقف خلفه، يميلون بشكل كبير لدعم ترامب في الوقت الراهن.
التناغم بين الديناميكيات التكنولوجية وتوجهات رأس المال يلفت الانتباه بشكل خاص. فالدوائر المالية التي تسعى للانتقال من النظام النقدي التقليدي إلى الرموز الرقمية، وتدعم تقنيات مثل البيتكوين والبلوكتشين، تقف بشكل كبير إلى جانب ترامب. ويضاف إلى ذلك ارتباط هذه الدوائر بقطاعات رئيسية أخرى، أبرزها قطاع الطاقة، الذي يبدو أيضًا داعمًا قوياً له.
نجاح فترة حكم ترامب سيكون مرتبطًا بمدى قدرته على حماية مصالح هذه الدوائر، ومدى براعته في تجاوز العقبات التي قد تواجه هذه التحالفات.
يرى جميل شيناسي تورون، وبكل دقة، أن المسألة يمكن تحليلها من خلال العلاقة المتوترة بين "أصحاب الحجر" (قطاع الطاقة)، و"أصحاب الورق" (قطاع المال)، و"أصحاب المقص" (المجمعات العسكرية). بالطبع، هذه الأطراف ليست كيانات منفصلة تمامًا عن بعضها البعض. فالنظام العالمي يعتمد على هياكل هيمنة تقوم على التعاون بين هذه القوى.
مع ذلك، فإن التوترات التي ظهرت مؤخرًا بين هذه البنى الأوليغارشية تشير إلى صدع كبير لا يمكن إنكاره. إن المخلفات الاقتصادية الناتجة عن التضخم المالي والتوسع الهائل في حجمه أصبحت لا تخدم مصالح قطاع الطاقة. فالأطراف المرتبطة بالطاقة تطالب بنظام مالي أكثر استقرارًا وقابلية للتنبؤ.
أما الأطراف التي تزدهر بفضل الفقاعات المالية، فقد تبنّت قضايا مثل "الاتفاقية الخضراء للطاقة النظيفة" والحساسيات البيئية. لكن من الخطأ اعتبار ذلك نابعًا من نوايا حسنة أو موقف أخلاقي. بل يجب النظر إليه كوظيفة من وظائف الحرب التي يخوضها هذا المعسكر ضد قطاع الطاقة.
في المشهد السياسي الأمريكي، كان الديمقراطيون هم من دافعوا عن هذا التوجه. وحصلوا على دعم المحافظين الجدد الذين وجدوا لأنفسهم مكانًا في النظام القائم. من الصعب تفسير دعم عائلة بوش، المعروفة بانتمائها الجمهوري والمحافظة الشديدة، لبايدن إلا في هذا السياق.
باختصار، كان تحالف المصالح بين الدوائر المالية المزدهرة والهيئات الأمنية الحساسة مثل البنتاغون، والقيادة المركزية ووكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي هو ما يقف خلف إدارة بايدن.
هذا التحالف بين الديمقراطيين والمحافظين الجدد أعاد إحياء حلف الناتو وأعاد صياغة أوروبا لتتماشى مع الخط المناهض لروسيا. وكانت النتيجة حرب روسيا وأوكرانيا، التي أودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص، وأدت إلى تدمير مصداقية حلم الاتحاد الأوروبي باقتصاد مستقر.
في الحقيقة، يجب الانتباه إلى أن مركز هذا التحالف يقع في لندن. فقد نشأ التحالف حول محور أنجلو-أمريكي قوي. وخلال عهد بايدن، وصل نظام الدولرة إلى ذروته، مما أظهر بوضوح أن الديمقراطيين لا يسعون إلى نظام مالي محدود ومنضبط. لم يكن لديهم اهتمام بالذهب أو الفضة أو العملات الرقمية كمعيار جديد، ولم يتمكنوا من مجاراة مبادرة الصين بإطلاق "اليوان المدعوم بالذهب".
في هذا السياق، وجد ترامب فرصة ثانية. في فترته الأولى، ركّز على الدعوة إلى العودة لمعيار الذهب، وكان متحفظًا تجاه العملات الرقمية المحدودة. لكن جائحة كورونا أعاقت جهوده لتحقيق هذا الهدف. ويشير بعض الاقتصاديين، مثل أركان أوز، إلى أن الجائحة ربما كانت تهدف إلى منع ترامب من التحول إلى نظام مالي محدود، وهو تحليل جدير بالتأمل.
من جانبها، سارت الصين في مسار مشابه، حيث حظرت استخدام البيتكوين. أما في فترته الثانية، لا يكتفي ترامب بمواجهة معيار "اليوان المدعوم بالذهب" عبر إعادة إحياء معيار "الدولار المدعوم بالذهب"، الذي يمنح الولايات المتحدة تفوقًا ذاتيًا في الاحتياطي النقدي، بل يضيف ميزة جديدة من خلال إدخال نظام البيتكوين.
رغم ذلك، يبدو أن حياة ترامب ما زالت في خطر. الدوائر المالية المرتبطة بالفقاعات الاقتصادية ليست راضية عن التغيرات. محاولتا اغتيال، إلى جانب تفجير سيارة كهربائية من صنع إيلون ماسك أمام فندق ترامب، كلها مؤشرات على أن هذه القوى لم تتراجع. إذا استمرت الولايات المتحدة في التعامل مع كندا وكأنها الولاية 51، وتعاملت مع رئيس وزرائها كحاكم تابع، ودعمت ماسك لمواجهة ستارمر، فإن هذا سيؤدي إلى إشعال التوترات داخل قصر باكنغهام ومدينة لندن المالية.
على سبيل المثال، قد يقوم ستارمر بزيارة كييف لتوقيع اتفاقية استراتيجية عسكرية تمتد 100 عام مع أوكرانيا، مما يجعل إنهاء الحرب أمرًا أكثر صعوبة. وإذا دفعت أوروبا، وخاصة فرنسا وألمانيا، إلى حالة من الفراغ السياسي، فقد ينضمان إلى بريطانيا ويبدآن الحديث عن إرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا.
النواة الأنجلو-أمريكية تتعرض للتصدع. أمريكا الباسيفيك تنفصل عن أمريكا الأطلنطي. وإذا نجحت أمريكا الباسيفيك في ضم روسيا والهند، مع تعزيز سيطرتها على القطب الشمالي، فإن العالم الذي يهيمن عليه الأطلنطي سيصبح جزءًا من الماضي. وهذا قد يعني نهاية أوروبا كجزيرة وقارة.
الخلاصة، نحن الآن في خضم صراع بين الأطلنطي والباسيفيك. من سيحقق الفوز؟ تحالف التكنولوجيا الحديثة ورأس المال؟ أم العالم القائم على الفقاعات المالية؟
مرة أخرى، نؤكد أن هذا الصراع يمثل فرصة ثمينة لتركيا لإعادة إحياء دورها في منطقة البحر المتوسط.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!