د. سمير صالحة - أساس ميديا

يقول القائد العامّ للحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي إنّ “العوامل التي لا مجال لذكرها الآن جعلت الأعداء يحقّقون بعض النتائج في سوريا، لكنّ الوضع لن يبقى على حاله”. بانتظار كشف طهران عن هذه “العوامل”، عليها قبول حقيقة فقدانها لبشّار الأسد إحدى أهمّ أوراقها، التي كانت تسهّل لها التوغّل والتمركز السوريّ الإقليميّ، فكانت طهران تصول وتجول في المكانين مستفيدة من استقوائها بالبعض وضعف آخرين. أمّا اليوم فقد تغيّرت المعادلة وباتت خارج المشهد.

ما هي حظوظها في العودة ومن الذي سيدعمها في ذلك؟ وهل تتطوّع تركيا لتقديم مثل هذه الخدمة كما فعلت مع موسكو والعديد من العواصم التي طلبت توسّطها لدى القيادة السوريّة الجديدة؟ وهل يحمل لها قيامها بمهمّة من هذا النوع المزيد من المكاسب في سوريا والإقليم، حيث يهمّ تركيا تقليص النفوذ الإيراني في أكثر من ساحة مواجهة ثنائية ومتعدّدة الجوانب مع طهران؟

بل لماذا قد تفكّر أنقرة في الإقدام على خطوة الدخول على خطّ الوساطة بين دمشق وطهران؟ وما هي مصلحتها في ذلك وهي تدرك أنّها ستعرّض كلّ خطوات التقارب والانفتاح الذي حقّقته في العامين الأخيرين مع العواصم العربية، والخليجية تحديداً، للخطر؟

احتمال كبير أن تكون تركيا وصلت لقناعة أنّ دخولها على الخطّ بين دمشق وطهران بات يشبه دخولها على الخطّ بين طهران والغرب في الملفّ النووي قبل سنوات، حين كانت تبحث عن فرصة موازنة علاقاتها بالجميع. لكنّ الأمور تختلف هذه المرّة، فطهران لا تريد مثل هذه الوساطة، بل تبحث عن التصعيد والتوتير، وهما الخيار الذي تقدّمه على خيارات التهدئة والحوار والدبلوماسية. قد تفعل تركيا ذلك عندما تكتشف أنّ هناك تحوّلات جذرية في سياسة إيران السورية والإقليمية، وعندما تشعر أنّ هناك حاجة إلى تحرّك من هذا النوع، تريده وتطالبها به العواصم العربية، وسط توافقات جديدة على التهدئة الإقليمية، وهذا ما هو غير موجود حتّى الآن.

تغيّر القراءة الإقليميّة والأولويّات

وجدت تركيا نفسها لسنوات طويلة أمام طاولة آستانة، مركز الحوار الثلاثي الذي جمعها مع موسكو وطهران حول الملفّ السوري. قبلت ذلك على حساب علاقاتها بالعديد من الدول العربية والغربية، معرّضةً مصالحها مع هذه العواصم للتراجع والتدهور. تغيّرت القراءة الإقليمية التركيّة في التعامل مع الكثير من الملفّات التي لم تعطِها ما تريده.

تغيّرت أيضاً أولويّات تركيا في سوريا بعدما خذلها حؤول طهران دون أيّ حوار تركيّ مع دمشق. بدأت ترى في التمدّد الإيراني في سوريا اختراقاً وتوغّلاً يتعارضان مع مصالحها ويتحوّلان إلى مصدر خطر على أمنها الحدودي، خصوصاً مع اقتراب الميليشيات المحسوبة على إيران من الحدود التركية الجنوبية والشرقية. وصلت القناعة التركية لاحقاً إلى أنّ التنسيق مع إيران في سوريا يقوّي موقف الأسد ويحول دون قبوله العروض المقدَّمة له بشأن الحوار والتفاهم.

تدرك أنقرة اليوم أنّ النفوذ الإيراني في سوريا هدّد مصالحها الاستراتيجيّة في المنطقة، سواء من حيث الأمن أو الجغرافيا السياسية، وأنّ أيّ جهد تركي يُبذل للتقريب بين القيادة السورية الجديدة وطهران لن يساهم في خفض التوتّر وفتح صفحة جديدة من العلاقات كما تحاول روسيا، بل سيتمّ تجيير ذلك إيرانياً لمصلحة عرقلة الحوار السوري – السوري في الداخل .

تركيا حذرة مع إيران

واضح تماماً أنّ أنقرة لن تقدم على أيّ خطوة باتّجاه التقارب مع طهران في سوريا تطيح بما بنته من علاقات انفتاحيّة مع العالم العربي والعواصم الغربية وتعرّض جهودها للخطر. لهذا تتبع تركيا اليوم سياسة حذرة في علاقاتها مع إيران في الملفّ السوري بما لا يؤثّر على علاقتها مع العالم العربي والغرب. هي بحاجة إلى تفادي أيّ تصعيد قد يؤدّي إلى زعزعة منظومة العلاقات الجديدة التي بنتها في العامين الأخيرين، ومكّنتها من الوجود بين كبار اللاعبين الجدد في الملفّ السوري مثل الرياض والدوحة وأبو ظبي .

دخول أنقرة على خطّ الوساطة بين دمشق وطهران في هذه المرحلة لن يخدم مصالحها، إذا لم نشأ التوقّف عند الكثير من الخسائر والأضرار التي ستواجهها. قد تعزّز تركيا من نفوذها إذا ما نجحت في لعب دور الوسيط بين دمشق الجديدة وطهران المغايرة، لكنّ الخسائر قد تكون أكبر بكثير من المكاسب، في ظلّ التعنّت الإيراني وتمسّك طهران بخيار التصعيد والتحدّي في النبرة والأسلوب، متجاهلة كلّ المتغيّرات والتحوّلات في التعامل مع الملفّ السوري .

لا عودة إيرانيّة إلى سوريا

تابعت القيادة الإيرانية مثل غيرها تفاصيل زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع للرياض ولقاءاته بالمسؤولين السعوديين والتصريحات والبيانات الثنائية الصادرة حول المحادثات ونتائجها. فعلت ذلك أيضاً من خلال رصد نتائج زيارة الشرع لأنقرة. ليست هناك أيّ مواقف رسمية معلنة من طهران، لكنّ الحصيلة تقول إنّ حظوظ إيران بالعودة السريعة والمبكرة إلى الساحة السورية مستبعدة، خصوصاً بعد صدمة متغيّرات المشهد اللبناني، ساحة لعِبها على مدى 4 عقود، ومركز مناوراتها لعقد الصفقات والمقايضات وتبادل الرسائل المحلّية والإقليمية .

كانت إيران إحدى الدول الضامنة لـ”مسار آستانا”، حيث إنّ أيّ حديث أو تفاوض يعني سوريا كان لا بدّ أن يمرّ عبرها. أمّا اليوم فتعتبر أنّ ما يحدث في سوريا هو نتيجة لسياسة تركيا السوريّة، وأنّ أنقرة ستتحمّل كلفة باهظة بسبب ذلك .

تبدّلت توازنات الداخل السوري لمصلحة المزيد من النفوذ العربي – التركي على حساب إيران وتمدّدها هناك. خيبة أمل إيرانية لا تقبل طهران بوقوعها على الرغم من حجم الورطة .

ذكرت وكالة “إرنا” الإيرانية وهي تتحدّث عن معدّات عسكرية جديدة تمّ استعراضها أخيراً من قبل المؤسّسة العسكرية الإيرانية، أنّها تستخدم أسلحة بأربع خصائص: المدى الطويل، والدقّة العالية، والذكاء، والاعتماد على الشبكات لتقويم وقياس قدراتها الدفاعية والهجومية. لا تنطبق هذه التوصيفات على سياسة إيران السورية بعدما تلقّت ضربة قويّة دفعتها لمغادرة دمشق. هناك سلاح خفيّ تملكه ربّما يعيد لها ما خسرته في سوريا: التفاهم مع الإدارة الأميركية أو مع تل أبيب مباشرة على صفقات ومقايضات متعدّدة الأهداف والجوانب .

عليها مراجعة سياساتها

قام الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي في مطلع شهر أيار 2023 بزيارة لدمشق تحدّث فيها عن “انتصارات كبيرة حقّقتها سوريا، واتّضح للجميع أنّ الطريق المنتصر هو طريق المقاومة”. وقابل ذلك حديث بشار الأسد عن “علاقة مستقرّة وثابتة على الرغم من العواصف السياسية والأمنيّة التي ضربت منطقة الشرق الأوسط. الرؤية المشتركة للبلدين أثبتت أنّها مستندة إلى أسس صحيحة وثابتة، مستندة إلى قيم، مستندة إلى مبادئ، مستندة إلى عقائد، ومستندة، وهو الأهمّ، إلى مصالح الشعوب وإلى سيادتها واستقلالها”.

تحتاج طهران، بعد تحوّلات المشهد السوري في 8 كانون الأوّل المنصرم وسقوط نظام الأسد، إلى جهد كبير وفترة زمنيّة طويلة لسماع عبارات مشابهة على لسان مسؤولين سوريين يحذّرونها من “بثّ الفوضى” في بلادهم، وتحديداً ما قاله وزير خارجية الحكومة السورية المؤقّتة، أسعد حسن الشيباني، من أنّ على إيران الامتناع عن التدخّل في الشؤون الداخلية لسوريا، وأنّها تحتاج إلى تغيير جذري في سياستها من أجل إقامة علاقات بين البلدين.

منحت دمشق الأسد الضوء الأخضر لإيران كي تحقّق ما يدور في ذهنها سوريّاً. تعتبر طهران نفسها اليوم خارج ما يجري من حولها في سوريا والمنطقة. لكنّ الواقع يقول إنّها لن تصمد طويلاً في مواجهة التيّار الإقليمي العاصف. حتّى لو لم تكن هناك مؤشّرات حقيقية بعد، فطهران ستجبر على مراجعة سياساتها السوريّة لأنّ مصالحها وخروجها من المستنقع الإقليمي الذي وضعت نفسها فيه يتطلّبان ذلك .

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس