
توران قشلاقجي - القدس العربي
مرت مئتا عام على حملة نابليون على مصر. ومع ذلك، لم يتمكن سياسيو هذه المنطقة الواسعة، ولا مثقفوها من بناء ثقافة جديدة. لقد انجرف حوض الحضارات التي تشكلت عبر مئات السنين، إلى دوامة تقليد أعمى يوما بعد يوم. ولم يتمكن لا المتدينون ولا العلمانيون ولا اليساريون، من خلق ثقافة خاصة بهم. الجميع ينتقد بعضه بعضا؛ وعندما يتعلق الأمر بالإنتاج، فلا أحد يبادر إلى العمل، وبينما تلجأ السياسة إلى ظلال الوعود الفارغة، يلقي المثقفون أحلامهم على الشعب مثل ستارة نوم.
ربما كان أسلافنا فقراء وضعفاء، في الماضي، لكن أرواحهم كانت قوية بفضل نسائهم ودعواتهن، كانت منازلنا تفيض بحكايات أجدادنا، في ليالي الشتاء، كان سحر الحكايات يسود عالمنا الخيالي، مثل الظلال الطويلة إلى جانب المواقد. أما اليوم، فإن مربيات أجنبيات وشاشات ذات أضواء باردة هي التي تربي أطفالنا، وليس الجدات. المجتمعات التي لا تمتلك ثقافة، تتغذى على التهديدات، والأجيال التي كانت تتعرض للتخويف بتهديدات «الخطر السوفييتي» و»الخطر الأمريكي»، يحرمونها اليوم من النوم بسبب مخاوف أخرى. وفي الواقع، نعلم جميعا أن الثقافة والفن هما فقط من يبني المجتمع؛ حكاياته وأغانيه الخاصة فقط هي التي تحافظ عليه.
عندما دخل نابليون مصر عام 1798، قام بخلع أول مسمار من الدولة العثمانية؛ وعندما أحرق موسكو ودمرها عام 1812، أجبر روسيا على القيام بمراجعة حضارية. بعد هذه الصدمة، انقسم مثقفو وسياسيو الشرق إلى قسمين: توجه البعض منهم نحو الغرب، بينما عاد الآخرون إلى جذورهم، بحثا عن حل. لكن حتى العودة إلى الجذور لم تخلق تحالفا؛ فالبعض بحث عن الخلاص في العرق، والبعض الآخر في الدين. وأثبتت المئتا عام التي مرت، أن التقليد لم ينقذنا، ولا الحقائق التي لم تُستلهم من الماضي… وحتى اليوم، لم نتمكن من تجاوز حالتنا الفوضوية وأزماتنا. في المقابل، بحث الروس عن الحل في الثقافة. لم يكتفِ دوستويفسكي وتولستوي بتقديم أعمال أدبية فحسب؛ بل صاغوا روح أمة في آبار الفن العميقة. ووفقا لتولستوي، الفن الحقيقي كان في أغاني الفتيات القرويات اللواتي كن يغنين أثناء عودتهن من الحصاد. كانت تلك الأغاني ممزوجة بأناشيد حزينة للفتيات اللواتي كن يذهبن لجلب الماء، وبصوت الأرض والجهد.
أما دوستويفسكي، فقد تناول في رواياته مكانة الحكايات الروسية القديمة في الثقافة؛ لأن الأمة التي لا تتغذى من حكاياتها، محكومة بأن تكون مجرد كومبارس في قصص الآخرين. لكن روسيا أيضا واجهت تساؤلات كبيرة: «هل الغرب صديق أم عدو؟» و»هل يجب أن نكون مثل الغرب أم نبتعد عنه؟». وأثناء بحثهم عن إجابة، لم يحتضنهم الغرب. لم تتمكن شوارع بطرسبورغ الفخمة، ولا قاعات الحفلات الرائعة، ولا الأعمال الأدبية لتولستوي ودوستويفسكي، من إنقاذ الروس من وصمة «الوحشية». على الرغم من كونهم مسيحيين، إلا أنهم في نظر الغرب كانوا دائمًا آسيويين، وكانوا دائما «الآخر». في عام 1817، اتهمت الصحافة البريطانية الجنرالات الروس، الذين سمحوا لنابليون بالهروب، بالفشل وعدم الكفاءة، وقامت بحملة تسلط الضوء على بربريتهم ووحشيتهم. لو لم يكتب تولستوي «الحرب والسلم»، لكان الجنرال كوتوزوف قد دخل التاريخ وفقا لادعاءات البريطانيين كقائد عديم البصيرة والحكمة، لكن كوتوزوف كان قد فتح الطريق لتحويل الروس إلى أمة.
اليوم، تنفق وزارات الثقافة في بلدان منطقتنا مليارات الدولارات على حفلات الغرب الموسيقية وعروضه السينمائية ولوحاته الفنية. ولكن لو دعمنا فنانينا وحكاياتنا وموسيقانا، ربما سنشهد ولادة حضارة من رمادها. لماذا نصر حتى اليوم على هذه السطحية؟ أليس من المأساوي أن أولئك الذين وقفوا كالظلال على أبواب الغرب لمئتي عام، ينتظرون رحمته اليوم، معتقدين أن الغرب الذي لم يحتضن حتى روسيا سوف يحتضننا؟ أليس انعدام الثقافة والفن هو السبب الأساسي لصراعاتنا السياسية التي لا تنتهي، وافتقارنا لروح مشتركة توحدنا؟ ألن يلقى هذا الصراخ الصامت الممتد من الماضي إلى الحاضر آذانا صاغية؟ ألم يحن الوقت للعودة إلى حكاياتنا وأغانينا وقصائدنا الشعرية الخاصة بنا؟ أم أننا مستعدون مرة أخرى للضياع في قصص الآخرين؟ لأن الأمة التي لا تكتب قصتها بنفسها ستكون مجرد كومبارس في روايات وأفلام الآخرين.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس