
توران قشلاقجي - القدس العربي
التاريخ هو مرآة التحولات الكبرى التي تحدد العصور، وكل حضارة تبني حقيقتها الخاصة، وتدافع عن نهجها الخاص في العدالة، وتؤسس عالمها الخاص. ولكن في بعض الأحيان، ينهار نظام كان سائدا لقرون بشكل مفاجئ. اليوم، نحن نقف على مفترق طرق مماثل. النظام العالمي الذي كان مركزه أوروبا، والذي بدأ مع وصول كريستوفر كولومبوس إلى أمريكا، يغرق الآن في أعماق التاريخ. لقد انهار النموذج الفكري الذي رسم على مدى خمسة قرون التسلسل الهرمي العالمي، وحدد اتجاه الازدهار وشكّل مصير البشرية. تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والهمجية والوحشية الإسرائيلية التي شهدناها في غزة، وتغاضي الغرب عن ذلك، كانت من بين أبرز علامات هذا الانهيار.
ومع ذلك، فإن ورثة العالم القديم يواصلون مقاومة هذه النهاية الحتمية. إنهم يحاولون إعادة إحياء جثة حضارة منهارة، عبر تزيينها وإعطائها حياة وهمية للحفاظ على وجودها. لكن التاريخ يعلمنا أن اتجاه النهر لن يتغير ما لم يتغير مجراه. وكما كان الحال بالنسبة لخطاب “التنمية” الذي طُرح للدول النامية بعد الحرب العالمية الثانية، فإننا نشهد اليوم خدعة مماثلة. كانت التنمية مجرد شكل آخر من أشكال الاستعمار؛ حيث جعل الغرب هذه الدول تابعة له للحفاظ على هيمنته، لكن القضية الحقيقية لم تكن اللحاق بالغرب، بل تجاوزه.
البشرية اليوم مضطرة لبناء عالم جديد، ولكن هذا لن يتحقق من خلال جهود لا تسعى إلى التشكيك في منطق الرأسمالية أو تجاوزه، إما أن يتم بناء نظام قائم على المساواة والحرية والعدالة والانسجام مع الطبيعة، أو سنشهد واحدة من أكبر الانهيارات في تاريخ البشرية. حتى الآن، كان الفكر اليساري يعترض فقط على نتائج الرأسمالية؛ لكن القضية الحقيقية هي التشكيك في منطق هذا النظام وجذوره. لقد دفع الاتحاد السوفييتي ثمناً بشرياً وبيئياً كبيراً في سعيه للّحاق بالغرب، ولكن النتيجة كانت فشلاً ذريعاً. الحل لم يكن في اتباع خطى الغرب، بل تجاوز الحدود التي وضعها الغرب. اليوم، لا يزال العديد من الدول العربية والإسلامية عالقة في الخطأ نفسه الذي وقع فيه السوفييت، وهذا يعود إلى عدم قدرتها على رؤية هذا الانهيار. البشرية تقف اليوم على مفترق طرق، ينبغي أن لا يكون التشاؤم عذرا للجمود وعدم العمل؛ بل يجب أن يكون دافعا للتحرك. لقد أظهر التاريخ أن الصحوات الكبرى تأتي بعد أحلك الفترات، ولكن هذه المرة، القضية ليست مشكلة منطقة أو حضارة واحدة، الانهيار اليوم عالمي، والحل يتطلب وعيا وإرادة عالمية، إذا لم يتم التدخل في هذه العملية في الوقت المناسب، فقد تعبر البشرية عتبة لا رجعة فيها. ورغم ذلك، لم تنطفئ أبدا نضالات الشعوب من أجل الحرية والمساواة والعدالة. ولم يتمكن النظام الذي فرضه الرأسماليون، والذي يتسم بالذل والانهيار الأخلاقي وعدم احترام الكرامة الإنسانية، من إخضاع البشرية تماما. لهذا السبب، أطلقت تركيا تحولا كبيرا في داخلها. الحوار الجديد مع الأحزاب السياسية الكردية هو مثال على ذلك. وعملية صياغة الدستور الجديد المخطط لها هذا العام ستظهر عزم تركيا على بناء نظامها الخاص بعد التخلص من قيود الغرب.
على مدى القرون القليلة الماضية، تم تشكيل الوعي البشري من خلال الأيديولوجيات المتمركزة حول أوروبا. هذا الوعي، الذي جعل من عدم المساواة العالمية والاستغلال والهيمنة تبدو كظواهر طبيعية، تم استيعابه وتقبله أيضا من قبل المجتمعات خارج الغرب. وهكذا، لم تُستعمر الأراضي فقط، بل استُعمرت العقول أيضا. القضية الكبرى اليوم هي كسر هذا الاستعباد الفكري وإعادة بناء أفقنا الفكري الخاص. لأنه من دون التحرر الفكري، لن يكون من الممكن فتح طريق جديد، أو بناء نظام يحترم كرامة الإنسان. وكما قال مالك بن نبي، يجب على الدول العربية والإسلامية أولاً التخلص من “القابلية للاستعمار”. وكذلك يؤكد علي شريعتي، ضرورة أن تستيقظ هذه الدول لمواجهة آليات “الاستحمار” التي يفرضها النظام وأن تحرر عقولها.
خلاصة القول؛ النظام العالمي الاستعماري والإمبريالي الذي بدأ مع وصول كريستوفر كولومبوس إلى أمريكا عام 1492، ينتهي به المطاف اليوم إلى مزبلة التاريخ. فقد انهارت الرؤية الحضارية التي فرضها الغرب، وأصبح بناء نموذج فكري جديد أمرا لا مفر منه. والسؤال الرئيسي هو: من سيبني هذا النموذج الفكري الجديد؟ هل سيبحث العالم مرة أخرى عن حلول لأزمات الغرب باستخدام وصفاته؟ أم سنبحر نحو أفق جديد ونبني حقبة جديدة للبشرية؟ من سيبني المستقبل؟ هذه هي القضية الرئيسية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس