ترك برس

تناول مقال تحليلي للكاتب والباحثة المصرية صالحة علام، في موقع الجزيرة مباشر، السجال الذي دار بين تركيا وإيران في الأيام الأخيرة بسبب تصريحات متبادلة حول الملف السوري.

وقالت الكاتبة إنه في تطور سريع، تصاعدت حدة الأزمة الدبلوماسية القائمة فعلا بين تركيا وإيران، وذلك عقب قيام كل منهما باستدعاء السفير والقائم بالأعمال لديهما على خلفية التصريحات التي صدرت من الجانبين، وحملت في محتواها انتقادات شديدة اللهجة لمسار السياسة الخارجية لكل منهما.

وأعلن المتحدث باسم الخارجية التركية أن بلاده استدعت القائم بالأعمال الإيراني بسبب ما سماه “انتقادات طهران العلنية” لسياسات أنقرة، وتم إبلاغه بأن “أمور السياسة الخارجية لا ينبغي استخدامها كأداة من أدوات السياسة الداخلية”، معربا عن تفضيل بلاده نقل مثل هذه الرسائل ذات الحساسية مباشرة إلى مسؤوليها.

كان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أدلى بتصريحات في مقابلة بثتها قناة الجزيرة، حذر فيها طهران من محاولة زعزعة استقرار سوريا، قائلا إن السياسة الخارجية الإيرانية المرتبطة بأذرعها في المنطقة تكتنفها “مخاطر كبيرة على الرغم من المكاسب التي سبق وأن حققتها”.

مشيرا إلى أن طهران “تكبدت تكلفة أكبر مقابل الحفاظ عليها”، وأن عليها التخلي عن سياسة الاستحواذ التي تتبعها، مرجحا قيام مسؤولي إيران بتطوير علاقات بلادهم بالدول الأخرى، والتفكير من منظور مختلف بعد كل التطورات التي تحدث في المنطقة.

وذكرت علام أن تصريحات فيدان أثارت على ما يبدو غضب الإيرانيين، حيث أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أن ما صدر عن وزير الخارجية التركي “كان غير بناء”، مشيرا إلى أنه “يجب على أصدقائنا الأتراك التفكير جديا في نتائج وتبعات سياساتهم”، معترفا في الوقت ذاته بوجود خلافات مع أنقرة ترتبط بملفات إقليمية منذ القدم، ورغم ذلك تم إدارتها بمنطق وعقلانية من جانب الطرفين.

وجاء في المقال:

منذ بداية اندلاع الثورة السورية عام 2011، مرورا بعمليات القمع الذي مارسه نظام بشار الأسد، واصطفاف تركيا إلى جانب مطالب الشعب السوري الراغب في الحرية والديمقراطية، ووقوف إيران إلى جانب نظام بشار الأسد ظهرت على السطح خلافات قوية بين الجارتين، حاولتا في البداية احتوائها دبلوماسيا.

إلا أنها ازدادت حدة مع تحول الثورة الشعبية إلى صراع مسلح، ونجاح قوات المعارضة المسلحة في السيطرة على أجزاء من مناطق الشمال السوري، ودخول أفراد من الجيش التركي إلى المنطقة وتمركزهم فيها، وانتهاء بسقوط نظام البعث وهروب بشار الأسد إلى موسكو في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، واضطرار إيران إلى مغادرة الأراضي السورية، وانسحاب الحرس الثوري الإيراني من قواعده فيها.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها التراشق بالتصريحات بين تركيا وإيران، إذ بعد سقوط نظام الأسد بثلاثة أيام فقط أي الحادي عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2024 وجّه المرشد العام للثورة الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي اتهامات مباشرة لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، بالوقوف وراء انهيار النظام السوري، مضمنا تركيا في هذه الاتهامات دون ذكر اسمها.

نشر هذه الاتهامات على حساب خامنئي الشخصي بمنصة “إكس” باللغة التركية كان كافيا لتدرك أنقرة أنها المقصودة بها، حيث كتب “لعبت إحدى الحكومات المجاورة لسوريا، ولا تزال، دورا واضحا فيما حدث بسوريا، لكن القوة التآمرية الحقيقية والمركز الرئيس للقيادة كانا أمريكا والكيان الصهيوني، لدينا أدلة قاطعة لا تدع مجالا للشك على هذا”.

فيما قامت وسائل إعلام إيرانية باستهداف تركيا وانتقاد سياستها الإقليمية عبر تقارير شديدة اللهجة حملت في طياتها العديد من الاتهامات لأنقرة، محمّلة إياها مسؤولية فقدان طهران لنفوذها القوي داخل سوريا، الذي استثمرت فيه على مدى 13 عاما كاملًا، خاصة في مجال التعاون العسكري، ما سمح لها بإقامة قواعد عسكرية، ومراكز تمركز لقوات حرسها الثوري.

تدرك أنقرة مدى حجم الخسارة الفادحة التي تعرضت لها طهران في سوريا، إلى جانب جملة الإخفاقات التي منيت بها في لبنان بعد الضربات التي تعرض لها (حزب الله)، وخسارته للكثير من قيادات الصف الأول به.

وما أصبح يواجهه من تحدٍ واضح لوجوده على الساحة اللبنانية بعد التطورات السياسية التي يمر بها لبنان حاليا، ورغبة مسؤوليه الجدد في التهدئة، وإسكات أصوات المدافع، والابتعاد عن التوترات الحدودية مع الكيان الإسرائيلي، وتوجيه الجهود كافة إلى إعادة إعمار ما دمرته الحرب، لإعادة السكان إلى مناطقهم التي هجروا منها، والعمل على تحسين اقتصاد البلاد، ورفع قدراته لمواجهة التحديات التي تعيقه.

مع ترجيح احتمالات أن تتعرض جارتها لإخفاقات مماثلة في كل من اليمن والعراق، وأن ما يصدر من المسؤولين الإيرانيين من تصريحات، يأتي في إطار التنفيس عن الغضب من تقليص نفوذ بلادهم من مناطق طالما فرضوا سيطرتهم عليها، في الوقت نفسه الذي يتزايد فيه النفوذ التركي في المنطقة ويتسع مداه.

ورغم هذا فقد كان لا بد من اتخاذ موقف حاسم، والرد على الاتهامات الإيرانية التي يتم التصريح بها في العلن، وتبرزها وسائل الإعلام، حفظا لماء الوجه على الصعيدين الداخلي والإقليمي، حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، ويعتقد أن تركيا عاجزة عن الرد بالأسلوب نفسه، والقوة نفسها.

تركيا لا تزل تنظر إلى إيران كحليف مهم لها في المنطقة، تحتاج إلى ضمان استدامة علاقاتها الجيدة به، خاصة وأنها تستفيد فعلا منه في بناء نفوذ سياسي واقتصادي، وتحقيق العديد من أهدافها الإقليمية، وفي تقديم نفسها كنموذج سياسي هناك إجماع على نجاحه، لديه القدرة على تبني مشكلات وقضايا المنطقة إسلاميا وعربيا في المحافل الدولية.

وهو ما بدا واضحا في تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حينما قال إن العالم الإسلامي يحتاج أن يكون له صوت يعبّر عنه في المحافل الدولية، وعلى منصة الأمم المتحدة، مقدما بلاده لتكون هذا الصوت الذي يدافع عن قضايا مسلمي العالم.

إيران من جانبها تدرك أن استمرار علاقاتها بتركيا في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها، مع ما يشوب هذه العلاقة من توتر وخلافات، أمر لا مناص منه، خاصة وأن تركيا من الدول القلائل التي رفضت بشدة الانضمام إلى منظومة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي.

وسعت إلى تطوير علاقاتهما السياسية والاقتصادية، على الرغم من الاعتراضات الأمريكية، واستثمرت دبلوماسيتها في دعم مواقف طهران بالمحافل الدولية، وهي إلى ذلك بحاجة إليها اليوم في مواجهتها المحتملة لمحاولات تقويض نظامها القائم، وتغييره بنظام سياسي جديد تتواءم أطروحاته مع النهج الغربي، وهو النموذج الذي تعمل عليه كل من واشنطن وتل أبيب.

ومع السياسة التي يتبعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفريقه، والتهديدات الإسرائيلية المستمرة باستهداف برنامجها النووي، وإمكانية تشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، من المرجح أن تبذل إيران جهدا مضاعفا للحفاظ على دوام علاقاتها جيدة بتركيا كشريك تستطيع الاعتماد عليه في تخفيف حدة تداعيات تصعيد العقوبات المحتمل من جانب ترامب وإدارته.

قد يكون من المحتمل أن تتصاعد حدة المنافسة بين أنقرة وطهران إقليميا، خاصة على الساحة العراقية تحديدا، لكن يظل استمرار علاقاتهما الدبلوماسية والسياسية الخيار الوحيد أمامهما لمواجهة التحديات التي قد يتعرضن لها في المستقبل القريب، لذا ليس هناك أية احتمالات تشير إلى إمكانية أن تصل الأزمة الدبلوماسية الحالية بين البلدين إلى حد القطيعة، أو أن يكون لها تأثيرات سلبية في العلاقات الاقتصادية بينهما، بل يمكن اعتبارها مجرد زوبعة في فنجان ليس إلا.

وفي الأحوال جميعها، يوضح النهج الذي تتبعه تركيا في ما يتعلق بعلاقاتها مع إيران كيف أنها استفادت من ظروف إيران من أجل تعزيز أهدافها، ومن المتوقع أن تستمر في تعزيز تلك الروابط مع إيران لتحقيق مصالحها المتمثلة في مواجهة التحديات المحلية والإقليمية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!