ترك برس

تناول مقال تحليلي للكاتب والباحثة المصرية صالحة علام، أزمة التحول الديموغرافي في تركيا، والتي باتت تمثل تحديًا خطيرًا يهدد مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي.

ويسلط المقال في موقع الجزيرة مباشر الضوء على انخفاض معدلات المواليد، وارتفاع سنّ الزواج، وتزايد نسب الطلاق، إلى جانب عزوف الشباب عن تأسيس أسر نتيجة التغيرات الثقافية، وضغوط الواقع الاقتصادي المتفاقمة.

كما يستعرض التقرير بالأرقام والتحليلات خطورة هذا الاختلال السكاني، ويقارن بين ما تعانيه تركيا اليوم وما واجهته أوروبا سابقًا، في ظل سياسات حكومية تسعى لاحتواء الأزمة من خلال تقديم حوافز مادية وتشريعات داعمة، لكنها تبقى محدودة الأثر أمام عمق المشكلة.

وفيما يلي نص المقال:

مشكلة كبيرة تواجهها تركيا حاليا على الصعيد الداخلي، تمثل عائقا حقيقيا أمام خطط الحكومة التنموية، وتطلعاتها المستقبلية لتبوّء مكانة متقدمة على صعيد الاقتصاديات العالمية، وحجز مقعد لها ضمن مجموعة الدول العشر الأكثر انتعاشا اقتصاديا، بعد أن نجحت في الدخول إلى نادي العشرين باعتبارها أحد الاقتصادات الصاعدة التي يتوقع انطلاقها عبر تحقيق نسب نمو مرتفعة.

وهي خطوة تؤهلها مستقبلا للالتحاق بركب تجمع الكبار أو ما يعرف بمجموعة السبع، التي تضم في هيكلها أقوى الاقتصادات الصناعية على مستوى العالم، وتشمل الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وإيطاليا، وفرنسا، واليابان، وألمانيا، وكندا.

تركيا التي عدت نفسها مدة ممتدة من الزمن خزان الثروة البشرية لأوروبا الذي لا ينضب، ومركز تصدير الأيدي العاملة المدربة إلى مختلف دول العالم، وجدت نفسها تعاني مشكلة انخفاض شديد في معدلات المواليد، مع ارتفاع سن الزواج بين الشباب، وزيادة أعداد الرافضين منهم لفكرة الارتباط، وتحمل مسؤولية تكوين أسرة.

وهي نفس الأزمة التي تعانيها دول القارة الأوروبية، التي أصبحت تحمل بامتياز لقب “القارة العجوز” نظرا إلى ارتفاع معدلات شريحة المسنّين والمتقاعدين قياسا بمعدلات المواليد الجدد، وانخفاض نسب الشباب بها.

اختلال التركيبة السكانية مشكلة طالما أرقت بال المجتمعات الأوروبية، ولا تزال تمثل أزمة حقيقية للعديد منها، مما اضطرها مؤخرا إلى الرضوخ للأمر الواقع، وتغيير حزمة القوانين المنظمة لمسألتي الهجرة والعمل لديها، بما يسمح باستقبال أعداد كبيرة من اللاجئين، وتوطينهم في المدن والقرى التي تعاني نقصا في السكان، وغيابا شبه تام للأيدي العاملة، وذلك لضمان عدم اندثار الدول التي تعاني هذه الأزمة، واستمرارها على خريطة العالم.

من أجل تحقيق هذا الهدف، اعتمدت هذه الدول سياسات مختلفة لجذب فئة الشباب من الجنسين تحديدا، للاستفادة مما لديهم من تعليم وخبرات وقدرة على العمل والإنتاج، مفضلة الأسر الصغيرة السنّ، التي لديها عدد من الأطفال، الذين تعدهم بمنزلة المستقبل المستدام للدولة بحكم انتمائهم للمجتمع الجديد الذي يضمهم، ويتولى مهمة الإشراف على تعليمهم، وتنشئتهم وفق الأسس الغربية التي يدين بها.

بينما كانت أوروبا ترزح تحت ضغط هذه الأزمة كانت تركيا تتباهى فخرا بنظام الأسرة لديها، وأعداد سكانها الآخذ في التزايد نتيجة الزيادة المطردة في معدلات مواليدها، وارتفاع نسبة الشباب من الجنسين مقابل المسنّين والمتقاعدين، حتى ذهب البعض إلى الرهان على أنه وفق التباين الملحوظ بين أوروبا وتركيا في هذا الأمر، فإن الأخيرة سيكون بمقدورها اختراق المجتمعات الأوروبية التي دأبت على وضع شروط تعجيزية أمام هجرة الأتراك إليها، بل وسيتمكنون من التمركز بها، وفرض سيطرتهم وإرثهم الثقافي عليها دون أيّ معوقات.

لكن التطورات المتلاحقة، وانفتاح العالم نتيجة التكنولوجيا الحديثة، وزيادة وسائل التواصل الاجتماعي، والتحول الكبير في الأوضاع الاقتصادية، وحالة عدم الاستقرار وضبابية المشهد على الساحة العالمية، جعلت المجتمع التركي -خاصة فئة الشباب به- يعيد النظر في الكثير من ثوابته الثقافية، والفكرية، ومورثاته الاجتماعية.

فقد حلت متطلبات وأهداف عدت في مراحل متباينة ثانوية محل أخرى أساسية، فلم تعد قضية الارتباط والزواج والسعي لتكوين أسرة وإنجاب أطفال تمثل أولوية لدى الشباب التركي بنوعية، الطامح للهجرة ومغادرة البلاد بحثًا عن فرص لحياة تختلف جذريا عما عهده في مجتمعه، حياة أكثر راحة، واستقرارا ورخاءً ماديا، وحرية مطلقة تبعده عن ما تربى عليه من قيود اجتماعية، وثوابت عائلية، بما في ذلك الحرية الجنسية المطلقة خارج إطار مؤسسة الزواج التي تكبلهم بمسؤوليات يرون أنه ليس لديهم القدرة في ظل الظروف الراهنة على تحمل أعبائها.

وقد أظهرت الدراسات والإحصائيات الرسمية التي تجريها الدولة انخفاضا تدريجيا ملحوظا خلال السنوات الماضية في معدلات نسب المواليد، وارتفاعا كبيرا في سن الزواج، ونسب الطلاق.

فعلى سبيل المثال أكدت دراسة مقارنة قامت بها هيئة الإحصاء التركية، بين معدلات المواليد في عام 1950 وعام 2024 على وجود انخفاض يبلغ 20%، إذ بلغ معدل المواليد والأطفال عام 1950، 45% من عدد السكان، بينما في 2024، بلغ 25%، وأوضحت الدراسة أنه من المتوقع أن يستمر معدل المواليد في الانخفاض خلال السنوات المقبلة.

توقعت الدراسة كذلك أن تنخفض معدلات الإنجاب في عام 2030 لتصل إلى 22.1%، وفي عام 2040 إلى 17.9%، وهو ما أصبح يمثل خطرا وجوديا على مستقبل الدولة، ودفع مسؤولي الدولة إلى التحذير من خطورة هذا الوضع المتدهور على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والتنبيه إلى ضرورة دق ناقوس الخطر، والإسراع في وضع الخطط الكفيلة بمواجهته.

أشارت دراسة لنفس الهيئة إلى أن عدد حالات الزواج عام 2023 بلغ حوالي 567 ألفا، ليرتفع بصورة طفيفة العام الماضي ويصل إلى حوالي 568 ألفا، بينما بلغت نسب الطلاق عام 2023 أكثر من 173 ألفا، لترتفع عام 2024 إلى 187 ألفا من عدد حالات الزواج.

لا يمكن الفصل بين التحديات الاجتماعية التي يواجهها المجتمع التركي ومجريات الأمور والتطورات المتلاحقة التي يشهدها العالم، فمع اتساع نطاق الأزمة الاقتصادية، والاختلال الكبير بين دخل الأسر والارتفاع المطرد في أسعار تكاليف الحياة، كان لابد من حدوث تغيرات ملموسة بشأن ما يمكن للأسر تحمله من أعباء؛ إذ ارتفع أجر إجراء عمليات الولادة القيصرية في المراكز والمستشفيات المتخصصة، التي أصبحت تعتمدها معظم الأسر، حتى وصل في بعض الأحيان إلى ما يعادل 4000 دولار لإجراء الجراحة والمبيت ليلة واحدة فقط.

تكلفة مرتفعة تسبقها بطبيعة الحال مصاريف المتابعة الطبية لحالة الأم والجنين طوال مدة الحمل، وهو ساهم بصورة كبيرة في إحجام الكثير من الأسر عن التفكير في خوض عملية الإنجاب، خاصة بين أبناء الطبقة المتوسطة، الركيزة الأساسية للمجتمع، الذين يرزحون تحت ضغط الارتفاعات المتلاحقة لأسعار تكاليف الحياة اليومية، ومتطلباتها.

إلى جانب أزمة الإيجارات الشهرية التي تلتهم جزءا كبيرا من دخل الأسر، قد يتخطى في بعض الحالات أكثر من نصف ما يحصل عليه الأب والأم شهريا، خاصة في المدن الكبرى ذات الكثافة السكانية المرتفعة كإسطنبول، وأنقرة، وإزمير، وأنطاليا، وبورصة.

وكذلك ارتفاع أسعار دور الرعاية المخصصة لاستقبال الرضع والأطفال، التي أصبحت تتطلب ميزانية ضخمة شهريا، بعد أن بلغت تكلفة مصروفات الطفل الواحد بها ما يعادل 1300 دولار شهريا، وهو ما يقارب تكلفة الدراسة سنويا لطلاب مرحلة التعليم الجامعي في بعض التخصصات، مما يضيف عبئًا جديدا على عواتق الأسر التي تكافح من أجل توفير الأساسيات لأفرادها.

وفي مواجهة الأمر بدأت الحكومة التركية في اتخاذ بعض الخطوات العملية للمساعدة وحث الأسر على الإنجاب، وفي هذا الإطار قررت منح الشباب المقبل على الزواج قرضا حسنا يسدد على عدة سنوات بقيمة 150 ألف ليرة تركية، أي ما يقارب حوالي 4000 دولار، وتقديم 5000 ليرة أي حوالي 135 دولارا هدية للأسرة عند إنجابها طفلها الأول، والتعهد بدفع 1500 ليرة شهريا أي ما يعادل 40 دولارا تقريبا من ولادة الطفل الثاني حتى سن المدرسة، ودفع 5000 ليرة شهريا أي 135 دولارا عند ولادة الطفل الثالث حتى سن المدرسة.

هذا مع العمل على تعديل إجازة الوضع للأم لتصل إلى عام كامل، والمشاركة في مصروفات رعاية الحمل، والولادة، كما تم إصدار قانون يضع ضوابط على إجراء عمليات الولادة القيصرية، للحد من انتشارها نظرا لتأثيرها في الحالة الصحية للأم، وإطالة المدة المطلوبة لتعافيها على عكس الولادة الطبيعية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!