
ترك برس
تحدث تقرير للكاتب والخبير السياسي التركي يحيى بستان، عن وجود مشهد متغير في الدبلوماسية الإقليمية، حيث تسود التحركات الصامتة والمبادرات غير المعلنة بين الفاعلين الأساسيين في الشرق الأوسط.
وركّز التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق على زيارة وفد من حركة حماس إلى أنقرة وطلبها من تركيا لعب دور الوسيط مع واشنطن.
ويرصد الكاتب تراجع نفوذ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ظل فجوة متزايدة بينه وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتبدّل أولويات الولايات المتحدة في ملفات سوريا وإيران.
ويحلل التقرير كيف أن هذه التطورات تُعيد رسم ملامح المنطقة بعيدًا عن الأضواء، وسط صمت إسرائيلي لافت وإشارات واضحة إلى تغير في قواعد اللعبة الجيوسياسية.
وفيما يلي نص التقرير:
نعيش اليوم في مرحلة من الدبلوماسية المغلقة، فهناك تطورات بالغة الأهمية لا تحظى بما تستحقه من اهتمام في جدول الأعمال. وهذا يعود إلى سببين اثنين: أولًا، تسارع وتيرة التطورات العالمية والإقليمية، بحيث أصبح من الصعب مواكبتها والثاني، هو غزارة تدفّق المعلومات، الأمر الذي يصعّب مهمة انتقاء ما هو ذو قيمة حقيقية من بين هذا الكم الهائل من المعلومات.
وسأدرج في هذا السياق أيضًا الزيارة التي قامت بها حركة حماس إلى أنقرة قبل أيام. ففي 19 نيسان/أبريل، وصل وفد من حماس إلى أنقرة، وقد التقى بوزير الخارجية هاكان فيدان ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم كالين. ولم يصدر أي بيان من أنقرة بشأن تفاصيل هذه اللقاءات. إلا أن بعض التفاصيل ظهرت في وسائل الإعلام العربية.
وقد شكّل تأكيد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في وقت سابق أمام نتنياهو، على وجود حوار قوي بينه وبين الرئيس رجب طيب أردوغان ونتنياهو، وإعلانه ذلك على الملأ، مؤشرًا مهمًا على الثقل الدبلوماسي الذي باتت تحظى به أنقرة. ولا شك أن هذا يفتح لحماس أيضًا مجالًا للتحرك. ووفقًا لما تداولته وسائل الإعلام العربية، فقد قدمت حماس إلى أنقرة مقترح اتفاق شامل ترغب في إيصاله إلى الولايات المتحدة، وطلبت من أنقرة أن تستخدم نفوذها لدى واشنطن لإيصال المقترح.
وبحسب الأخبار المتداولة فإن مقترح حماس يتضمّن وقف إطلاق النار لمدة خمس سنوات، تحت ضمانات إقليمية ودولية. كما أعربت الحركة عن قبولها بتشكيل لجنة فلسطينية مستقلة لتولي إدارة قطاع غزة. وهذا تطوّر مهم؛ إذ من يذكر مقالي السابق بعنوان "الأجندة الخفية وغير المعلنة في منتدى أنطاليا الدبلوماسي" (15 نيسان/أبريل)، سيتذكّر أن منظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية، وتركيا، والصين، وروسيا، أصدروا بيانًا مشتركًا خلال المنتدى رفضوا فيه خطة التهجير الطوعي التي اقترحها ترامب، وطالبوا بربط غزة بالسلطة الفلسطينية. ويبدو أن حماس قدّمت ردًّا إيجابيًا على هذا المقترح خلال زيارتها إلى أنقرة.
ومن المتوقع في الأحوال العادية أن تثير زيارة حماس لأنقرة ردّ فعل عنيف من قبل إسرائيل. لكن ذلك لم يحدث، فقد التزم نتنياهو الصمت، والسبب كما أوضح ترامب: ليست تركيا وحدها من تجري محادثات مع حماس بل الولايات المتحدة أيضا.
اتساع الفجوة بين ترامب ونتنياهو
بدأت مساحة المناورة تضيق على نتنياهو، مرتكب جرائم الإبادة الجماعية. لقد شكّل السابع من أكتوبر فرصة طال انتظارها لجهاز الأمن الإسرائيلي، الذي كان يسعى منذ عام 2018 إلى إنشاء منطقة عازلة في الدول المجاورة. وقد صرّح رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، هاليفي، قائلًا: "لقد انتظرنا هذه الفرصة لسنوات." أما نتنياهو، الذي يرزح تحت ضغط تحقيقات الفساد، فقد سعى إلى استغلال هذه المرحلة لصالحه. فقبل السابع من أكتوبر، كان يسير وفق المخطط الإقليمي الذي رسمته الولايات المتحدة والذي يقوم على تشكيل تحالف عربي بقيادة السعودية، ويشمل سوريا بقيادة الأسد، ثم فتح قنوات تواصل بين هذا التحالف وإسرائيل، وإعادة ترميم العلاقات مع تركيا، وعزل إيران، وأخيرًا الانسحاب من المنطقة للتركيز على الصين. إلا أن نتنياهو، بعد ذلك التاريخ، بدأ بفرض أجندته الخاصة على واشنطن.
وتصف إسرائيل سياستها الإقليمية بعد السابع من أكتوبر على النحو التالي: القضاء على التهديدات المحيطة بها، ومنع ظهور تهديدات جديدة من خلال تدخلات وقائية. إنّ هذا النهج الذي يدعو إلى الفوضى ويتّسم بالنزعة التدميرية، لا يجلب سوى مزيد من الدماء والصراعات. إن جر المنطقة نحو مزيد من الفوضى لا يتماشى مع استراتيجية الانسحاب الأمريكية. ولهذا السبب، تتسع الفجوة يومًا بعد آخر بين نتنياهو، الذي راهن بمستقبله السياسي بالكامل على دعم ترامب، وبين الرئيس الأمريكي.
وقد حملت الأيام الماضية مؤشرات قوية على ذلك. صحيح أن ترامب ونتنياهو لم يتراجعا رسميًا عن خطة تهجير سكان غزة، إلا أن تطورات لافتة تجري خلف الكواليس. ومن المعروف أن واشنطن تحاول إقناع السعودية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، بينما تطالب الرياض في المقابل بالتعاون مع الولايات المتحدة في مجال الطاقة النووية المدنية، وتصرّ على "سماع التزام واضح بحل الدولتين". وقد صرّح وزير الطاقة الأمريكي، كريس رايت، الأسبوع الماضي بأن بلاده على وشك توقيع اتفاق مبدئي مع السعودية بشأن التعاون في مجال الطاقة النووية المدنية. وحتى الآن، لا توجد أي مؤشرات على أن الرياض قد تخلّت عن شرطها المتعلق بحل الدولتين. فهل سنسمع قريبًا من واشنطن إعلانًا يؤيد حل الدولتين في فلسطين؟ علينا أن نتابع عن كثب.
قرار سحب القوات الأمريكية تحذيرٌ لقسد
الوضع في سوريا لا يختلف كثيرًا. ولا تعيروا أي اهتمام لاستعراض رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي على هضبة الجولان، فعقب التحذير الصريح من ترامب الذي حثّ فيه إسرائيل على "التحلّي بالعقلانية" توقفت إسرائيل عن تنفيذ أي ضربات جوية جديدة في سوريا. وفي أول تصريح للرئيس رجب طيب أردوغان بعد تلك التطورات، قال بوضوح لا لبس فيه: "كل من يعيق الوصول إلى سلام دائم واستقرار في سوريا، سيجدنا بكل وضوح، إلى جانب الحكومة السورية في مواجهته."
تأملوا التوقيت.. بينما كانت إسرائيل تطرق أبواب واشنطن وموسكو بمقترح لتقسيم سوريا إلى أربعة أجزاء أو على الأقل إخضاعها لأربع مناطق نفوذ (أمريكية، وتركية، وروسية، وإسرائيلية)، بدأت تتوالى أنباء عن أن الولايات المتحدة شرعت بسحب قواتها من سوريا وإغلاق بعض قواعدها. وقد كتبت الصحافة الغربية أن الأمريكيين قالوا صراحةً لإسرائيل وقسد: "نحن بصدد الانتقال من الدور العسكري إلى الدور السياسي في سوريا." ومن خلال قرار سحب القوات، أرادت واشنطن أن تبعث برسالة إلى قوات قسد مفادها: "عليكم الإسراع في الاندماج مع دمشق." ورغم أن الإدارة الأمريكية ما زالت تطرح على دمشق مطالب "لا يمكن قبولها" كشرط لرفع العقوبات، إلا أنها أوضحت بجلاء أنها لن تتولى دور الحارس لمصالح إسرائيل وتنظيم "بي كي كي" الإرهابي في سوريا.
دفع المنطقة نحو هرمجدون
وأما المفاوضات النووية الجارية بين الولايات المتحدة وإيران، فهي تمثل النقطة التي بلغت عندها الفجوة بين ترامب ونتنياهو أقصى مداها. فقد اتفقت الدولتان على الشروع في وضع إطار أولي لاتفاق نووي محتمل. وقد صرّح وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو قائلًا: "إذا كانت إيران تريد برنامجًا نوويًا سلميًا، فيمكنها الحصول عليه كالعديد من الدول الأخرى حول العالم." ومن المعروف أن إسرائيل تسعى إلى توجيه ضربة عسكرية لإيران، وهو أمر ليس سرًا. وبينما تخوض واشنطن مفاوضات مع طهران، قد يحاول نتنياهو فرض الأمر الواقع وجرّ ترامب إلى حرب شاملة، أشبه بـ "هرمجدون". ورغم ما نقلته الصحف الأمريكية من أن ترامب أبلغ إسرائيل بعدم دعمه لأي هجوم على إيران"، إلا أن الخطر لا يزال قائمًا. وبالتالي فإن هذه القضايا لا تزال مفتوحة على احتمالات عديدة، وقد تشهد تقلبات وتغيرات مفاجئة. غير أن المرحلة الراهنة تتّسم بوضوح بموقف حاسم من ترامب تجاه نتنياهو، مفاده: "لا تقم بأي خطوة، ولا تفسد الأمور."
لقد كانت إحدى دوافع نتنياهو الرئيسية في نهجه العدواني هي الحفاظ على حكومته المتعطشة للدماء وضمان بقائه في السلطة، والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه الآن: إذا تم كبح جماح نتنياهو خارجيًا، فهل يستطيع الصمود داخليًا؟ أرى أن نهايته باتت تلوح في الأفق.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!