
ترك برس
تناول مقال للكاتبة والباحثة صالحة علام، بموقع الجزيرة مباشر، تصاعد الغضب الشعبي والسياسي في تركيا عقب نشر مجلة "ليمان" الساخرة رسماً كاريكاتيرياً اعتُبر مسيئاً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والنبي موسى عليه السلام، ما أثار موجة احتجاجات في الشارع التركي، خاصة بين المحافظين والإسلاميين الذين نظموا مظاهرات حاشدة وسط إسطنبول.
ويستعرض المقال تفاعل الحكومة مع الحدث، بما في ذلك تصريحات رسمية غاضبة واعتقال مسؤولي المجلة، إلى جانب تبرير المجلة بأن الرسم كان دعماً لفلسطين، الأمر الذي قوبل برفض واسع.
كما تربط الكاتبة بين الواقعة وسياقات سياسية أوسع تتعلق بصراع الهوية في تركيا، وتصاعد التوتر بين التيارات العلمانية والمحافظة. وفيما يلي نص المقال:
حالة الغضب والغليان تسود أجواء الشارع التركي، وتنذر بتصاعد حدة المواجهة بين مختلف شرائح المجتمع على خلفية قيام مجلة “ليمان” الأسبوعية الساخرة بنشر رسم كاريكاتيري عده الإسلاميون والمحافظون، الذين يمثلون ما يقارب نسبة 55% من السكان، يمس معتقداتهم وقيمهم الدينية، ويسيء بشكل مباشر إلى كل من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي موسى عليه السلام.
وهو ما دفع عشرات المئات منهم إلى التجمع وتنظيم مسيرة طافت أرجاء شارع الاستقلال، أحد أشهر شوارع إسطنبول، وأهم رموز العلمانية والأتاتوركية في البلاد، في تحدّ واضح وصريح يعلنه الإسلاميون الأتراك للمرة الأولى ضد هذا التيار في عقر داره، وإبراز استعدادهم للمواجهة مع كل من يحاول المساس بقيمهم الإسلامية، أو يسعى إلى الاستهزاء علانية بالأديان السماوية والسخرية من رموزها.
وانتشرت مقاطع مصورة ترصد توجّه بعضهم إلى مقر المجلة والتظاهر أمامها، وركل أبوابها بالأقدام، وهم يرددون هتافات: “في سبيل نبينا نضحي بأرواحنا، ونزهق أرواح المعتدين، لا أحد يستطيع إهانة نبينا”، ثم أدّوا صلاة العشاء جماعة عقب ذلك في منتصف الشارع.
المتظاهرون الذين رفعوا شعار “الله أكبر”، طالبوا الحكومة بتطبيق الشريعة الإسلامية، في تحدّ واضح للعلمانيين والمتأوربين، وهي المواجهة المستمرة والآخذة في التصاعد منذ اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بتهم الفساد والتربح واستغلال المنصب والتنصت على الآخرين، حيث أعلن حزب الشعب الجمهوري استهدافه للتيار الإسلامي في البلاد باعتباره الداعم للحزب الحاكم، داعيًا أنصاره إلى مقاطعة المنتجات والمحال التجارية ووسائل الإعلام التي تعود ملكيتها لكل من ينتمون لهذا التيار في البلاد.
الرد على الرسم المسيء من جانب المسؤولين في الدولة واكب التحرك الشعبي، وجاء متناغما معه، عازفا نفس لحنه، حيث سارع وزير الداخلية علي يرلي قايا بالتصريح بأن من يجرؤ على القيام بهذا الفعل ستتم محاسبته بالقانون أمام القضاء، وأن العديمي الحياء هؤلاء لن يفلتوا من العقاب، مؤكدا أن الرسم الكاريكاتيري الذي وصفه بأنه استفزازي لا تحميه حرية التعبير.
فخر الدين ألتون، رئيس الاتصالات برئاسة الجمهورية التركية، عدّ الرسم الكاريكاتيري بمنزلة هجوم شرس على معتقدات وقيم المجتمع التركي، لا يمكن القبول به أو الصمت اتجاهه.
الرئيس أردوغان شن هجوما عنيفا على ما قام به مسؤولو مجلة “ليمان”، وقبولهم بنشر كاريكاتير ينال من القيم الدينية وقدسية الأنبياء، واصفا هذا الفعل بأنه “استفزاز حقير”، متوعدا أولئك “الذين لا يظهرون الاحترام لنبينا والأنبياء الآخرين بالمساءلة أمام القانون”، مؤكدا ملاحقة السلطات لكل من يحاول النيل من قيم الأتراك المقدسة مهما كلف هذا الأمر.
أمام سيل الردود الرسمية والشعبية المحتجة، سارعت وزارة الداخلية بنشر مقاطع مصورة لرسام الكاريكاتير، ورئيس تحرير المجلة، ومديرها، ومصمم الغرافيك بها، وهم محتجزون في منازلهم، حفاة الأقدام، ومقيدو الأيدي بالأصفاد من قبل عناصر الشرطة، وكتبت الداخلية تعليقا تحت الفيديو قالت فيه: “لن تفلتوا من قواتنا الأمنية ولا من العدالة”.
وقد طالب والي إسطنبول داود غل -عقب هذا احتجاز الأشخاص الأربعة لدى قوات الأمن على خلفية الرسم الكاريكاتيري، بتهمة “الإساءة العلنية للقيم الدينية”- المواطنين بضبط النفس، وعدم السماح للمتربصين باستغلال الحدث، والقيام بأعمال استفزازية من شأنها إشعال الموقف، وتهديد السلم الاجتماعي، والعبث بالنظام العام، وإلحاق الضرر بالمحتجين.
دعوة والي إسطنبول ترافقت مع عدة دعوات أطلقتها جماعات صوفية ومحافظة لحث أعضائها على تنظيم المزيد من الاحتجاجات خلال الأيام المقبلة، بهدف التصدي لهذا السلوك المستهجَن من جانب مسؤولي المجلة، المعروف توجههم الفكري، وانتماؤهم الأيديولوجي، والأهداف التي يرمون إلى تحقيقها من وراء نشرهم كاريكاتير كهذه.
النيابة العامة أوضحت في بيان لها أن فتح تحقيق بشأن الرسم الكاريكاتيري، الذي قامت المجلة السياسية الساخرة بنشره يتم وفق المادة 216 من قانون العقوبات التركي، بتهمة “إهانة القيم الدينية للمجتمع علنا”.
وتظهر نسخة من الرسم بالأبيض والأسود تم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، مدينة تتعرض للقصف ويطير في سمائها رجلان لدى كل منهما أجنحة وهالات، وهما يتصافحان، فيعرف الأول بنفسه قائلا: “السلام عليكم أنا محمد”، ليرد عليه الآخر قائلا: “وعليكم السلام، أنا موسى”. ورأى كثيرون أن الرسم بهذه الصيغة يبدو أنه يصور حوارًا بين النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي موسى عليه السلام.
وفي مواجهة موجة الغضب والاحتجاجات المتزايدة، التي انتشرت كالنيران في الهشيم بين شرائح المجتمع التركي الشعبي منها والرسمي، سارعت مجلة “ليمان”، وهي مجلة أسبوعية سياسية ساخرة تسير على خطى مجلة “شارل إيبدو” الفرنسية، بإصدار بيان أوضحت فيه أن الرسم الكاريكاتيري الذي تسبب في الأزمة الحالية تم فهمه خطأ.
وأنّه لا يحوي رسما لا للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولا للنبي موسى عليه السلام، وإنما يصور شخصا مسلمًا يحمل اسم محمد قُتل بالقصف الإسرائيلي، واختيارهم لاسم محمد جاء على اعتبار أنه الاسم الأكثر انتشارا في كافة أنحاء المعمورة، فهناك 200 مليون شخص يحملون هذا الاسم، وأن هدفهم كان إبراز القضية العادلة للشعب الفلسطيني المسلم المظلوم، ولم تكن لديهم أي نية سيئة تهدف إلى الانتقاص من القيم الدينية، أو إثارة غضب التيار الإسلامي والمحافظ بتركيا.
البيان الذي أكد رفض أسرة المجلة للاتهامات الموجهة إليهم، واعتذارهم عن سوء الفهم الذي تسبب فيه هذا الرسم، أشار في الوقت نفسه إلى أن تفسير الرسوم الكاريكاتيرية بهذا الأسلوب يتطلب كما شديدا من الحقد والكراهية.
لكن التبرير الذي ذهب إليه البيان بشأن السعي لإبراز قضية الشعب الفلسطيني، والظلم الواقع عليه، ينفيه ويؤكد عدم منطقيته وجود شخص ملائكي آخر في نفس الكاريكاتير يحمل اسم نبي الله موسى، حيث لم يوضح كاتب البيان مغزى وجوده في رسم يدافع عن الفلسطينيين، وما إذا كان هو الآخر يمثل شخصا يهوديا تم اغتياله على أيدي المقاومة الفلسطينية مثلا!!!
هذا إلى جانب توقيت نشر هذا الرسم، الذي تزامن مع استمرار المواجهة بين الحكومة والمعارضة، والإعلان عن اعتقال عدد جديد من رؤساء بلديات حزب الشعب الجمهوري في محافظة إزمير، معقل الحزب وأحد أهم روافده التصويتية، بتهم الفساد والابتزاز، واستغلال المنصب لتحقيق مصالح شخصية خاصة، ومحاباة الأقارب والأصدقاء المقربين.
فلماذا لم يتم نشر هذا الكاريكاتير قبل هذا التوقيت إذا كان الهدف منه فعلا الدفاع عن القضية الفلسطينية، خاصة أن الحرب مستمرة في غزة منذ ما يقارب عامين، وقد استشهد خلالها مئات الآلاف من الفلسطينيين، وشهد العالم جثامين وأشلاء العديد من الأطفال والرضع وهي مقطعة الأوصال، ومتناثرة في المكان المستهدف من جانب جيش الاحتلال.
هل استيقظ القائمون على مجلة “ليمان” فجأة ليجدوا أن هناك حربا تدور رحاها بين ظالم ومظلوم، يسقط فيها الأبرياء صرعى وهم متناثرو الأشلاء أم أن وراء هذا التصرف محاولة خبيثة لتأليب شرائح المجتمع التركي بعضها على بعض، والزج بها في صراع طائفي عقائدي يستدعي معه -وفق وجهة نظر المحركين لهذا السيناريو- تدخّل قوى خارجية في شؤون البلاد كآخر سبيل يمكن أن تسلكه المعارضة لإسقاط الحكومة؟
خاصة في ظل معلومات تؤكد سعي قيادات المعارضة إلى الاستقواء بالخارج، التي كان آخرها قيام أوزغور أوزيل، زعيم حزب الشعب الجمهوري، بحث الحكومة الألمانية على دعم حزبه وتطلعاته لتعزيز مكانة تركيا كدولة ديمقراطية ودستورية في مواجهة ما سماه القمع الحكومي من جانب حزب العدالة والتنمية، محذرا برلين من مغبة السقوط في فخ “أولوية المصالح الاقتصادية أو الأمنية القصيرة الأجل” على حساب “الديمقراطية”.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!