ترك برس

في صمت المقابر العثمانية، تُحكى أروع القصص.. ليست مجرد أحجار منحوتة، بل شواهد تنبض بالحياة، تحمل في كل زخرفة سرًّا، وفي كل نقشٍ حكاية. هنا، حيث يتحول الموت إلى فن، والذكرى إلى قصيدة رخامية، تصفُ الحجر لغةً تخاطب العين والقلب معًا.

شواهد القبور العثمانية ليست علاماتٍ على رحيلٍ فحسب، بل هي جوازات سفر إلى عوالم غابرة.. تُخبرنا عن امرأةٍ توجّت شاهدها بالورود، وعن جنديٍ كُتِبت بطولاته على عمامته، وعن طفلٍ رحل باكرًا فحفر الألم اسمه بحروف من نور.

لا تقتصر شواهد القبور العثمانية على كونها دليلًا على الموت، بل تحمل بين طياتها تفاصيل حياة كاملة وقطعًا من التاريخ. تُعد هذه الشواهد المنحوتة بدقة عالية شهودًا صامتين يكشفون جنس المتوفى، ومهنته، ومكانته الاجتماعية، بل ويعكسون أحداث العصر الذي عاش فيه. وفقا لتقرير أعدته قناة "تي آر تي خبر" التركية الرسمية.

شواهد القبور: لوحات فنية تحكي السيرة الذاتية

في العهد العثماني، كانت شواهد القبور تُصنع وفقًا لمستوى المتوفى المادي والاجتماعي. فإذا كان الراحل من كبار الدولة مثل الوزراء أو الصدر الأعظم، كان يُكتب له شعر خاص يُنقش على الشاهد بأيدي خطاطين ونحاتين مهرة، ليتحول إلى تحفة فنية تثير الإعجاب حتى بعد قرون.

كيف تكشف الشواهد أسرار الموتى؟

بحسب الباحث "فاتح تشاوش"، يمكن لأي شخص – حتى من لا يعرف اللغة العثمانية – أن يميّز جنس المتوفى ومهنته بمجرد النظر إلى شكله:

الرجال: تُزين شواهدهم بالعمامة أو "الفيس" (طاقية)، وشكلها يدل على المهنة مثل العلماء أو الجنود.

النساء: تظهر شواهدهن زخارف نباتية كالورود والقرنفل، أو "الهوتوز" (غطاء رأس نسائي تقليدي).

أما القدم الحجري (الجزء السفلي من الشاهد)، فيحمل زخارف ذات دلالات روحية:

الوردة: إشارة إلى النبي محمد ﷺ.

السروة: شجرة دائمة الخضرة ترمز إلى الخشوع أمام الله.

الفواكه: مثل الرمان والعنب، إشارة إلى نعيم الجنة.

شواهد نادرة تحكي قصصًا خاصة

في مقبرة "أيوب سلطان" بإسطنبول، يوجد شاهد قبر فريد لبحّار، نُحت عليه شراع مطوي وسارية مكسورة، رمزًا لتوقف رحلته إلى الأبد، مع وجود مرساة ودفة كإشارة إلى مهنته.

أرشيف حجري للأحداث التاريخية

لا تقتصر الشواهد على سيرة الأفراد، بل تسجل أحداثًا جماعية مثل الأوبئة. ففي بعض المقابر، تُظهر كثرة شواهد الأطفال وفيات بسبب أمراض مثل الجدري، مما يُعد وثيقة تاريخية عن الأزمات الصحية في تلك العصور.

لماذا هذا الإتقان الفني؟

يؤكد "تشاوش" أن العثمانيين لم ينحتوا هذه الشواهد للزينة فحسب، بل لترك بصمة ثقافية تجمع بين فن الخط والنحت والتاريخ، كرسالة للأجيال القادمة. حتى أن بعض الشواهد الضخمة (مثل اللوحات الرخامية) تحوي سيرًا ذاتية كاملة بأسماء الأبناء ومناصبهم!

شواهد القبور العثمانية ليست مجرد أحجار، بل مكتبة مفتوحة عن حياة المجتمع، تُقرأ من خلال النقوش والرموز. إنها إرث يُظهر كيف حوّل العثمانيون الموت إلى فن، والذكرى إلى تاريخ ملموس.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!