
د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
استغفار الله تعالى من أعظم أبواب الرحمة الإلهية التي دعا إليها الأنبياء، وفي مقدمتهم نوح عليه السلام الذي خاطب قومه برفق ولين، وحثّهم على الإقلاع عن الذنوب والرجوع إلى ربهم ليجلبوا لأنفسهم الخيرات والبركات. وتُظهر الآيات الكريمة جانبًا عظيمًا من رحمة الله بعباده، ودلالة واضحة على أثر التوبة في صلاح القلوب وعمارة الحياة، وفيها عبرٌ تربوية وإيمانية عميقة.
فقد رغّب نوح عليه السلام قومه بالاستغفار حتى تتنزّل عليهم الخيرات، قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10- 12].
بعد دعوة نوح الأولى لقومه وإصرارهم على الكفر والفسوق والعصيان، واستكبارهم عن اتباع رسول ربهم إليهم، صاروا على علم بمضمون دعوته، غير خالي الأذهان من أركان الإيمان وأركان الإسلام، وقواعد الدين الكبرى، ولم يبقَ لهم عذر بعد التبليغ، وصاروا كفرة مذنبين عن إرادة جازمة وتصميم، ولا بدَّ أن يكون نوح قد أبان لهم أنهم كفرة مذنبون، ولذلك تحّول عليه السلام مع قومه من الدعوة إلى مبادئ الإيمان وأركان الإسلام، وقواعد الدين الكبرى إلى بيان ما يجب عليهم من الإقلاع عن الذنوب التي هم غارقون فيها من الكفر إلى كل ما دونه من فسوق وعصيان (1).
فحثّهم على الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه، وأنه سبحانه وتعالى يقبل منهم التوبة مهما عظمت ذنوبهم وتكاثرت خطاياهم، فكأنه يقول لهم: لا تجعلوا خطاياكم الكثيرة حاجزاً بينكم وبين التوبة، ولهذا جاء بصيغة المبالغة "إنه كان غفاراً"، حثاً لهم وتشجيعاً لهم واستنهاضاً لهممهم، فإن القوم من كثرة ذنوبهم مُنع عنهم القطر من السماء، وأجدبت الأرض وضاقت بهم أنفسهم (2).
﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾: أيّ: فقلت لهم: اطلبوا من الله أن يغفر لكم ذنوبكم، ومعلوم أنه لا يستغفر الله من ذنبه إلا من صحّ إيمانه، وأقلع عن ذنوبه، فهو إذا يدعوهم إلى الإقلاع عما هم فيه من كفر وفسوق وعصيان، ويدعوهم إلى طلب المغفرة من الله بعد ذلك (3).
وفي حديث نوح عليه السلام وتذكيرهم بأهمية الاستغفار، وطلب ذلك من الرب جل وعلا "ربكم" أهمية واضحة في التذكير باسم الكريم الرب، والرب: هو المالك المتصرف، ومعنى قوله تعالى "رب العالمين" ربوبيته للعالم تتضمّن تصرفه فيه، وتدبيره له، ونفاذ أمره كل وقت فيه، وكونه معه كل ساعة في شأن، يخلق ويرزق، ويُميت ويحيي، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويصرّف الأمور بمشيئته وإرادته، وإنكار ذلك إنكار لربوبيته وإلهيته وملكه (4).
والربُّ هو المربي جميع عباده بالتدبير وأصناف النعم، وأخص من هذا: تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم، ولهذا كثر دعائهم له بهذا الاسم الجليل؛ لأنهم يطلبون منه التربية الخالصة (5).
والربُّ في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام (6)، وفيه معنى الحنو الرعاية والعطف، ونوح عليه السلام في سيرته كان مستحضراً وتعبداً وداعياً لله بهذا الاسم فعلى سبيل المثال نجد ذلك:
في قول الله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾.
وفي قوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾.
وغير ذلك من الآيات التي جاءت على أبدع ما يكون ضمن السياقات المعروفة في قصة نوح عليه السلام.
﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾: أيّ: ينزّل الأمطار على بلادكم غزيرة وافرة، وجاء استعمال فعل "يرسل" بدل "ينزِّل"، لما في الإرسال من معنى تأدية المرسَل مهمة كلَّف من أرسله أن يؤديَها، وحدّد له وظيفته فيها، وهذا ما يسمّى "الإرداف" عند علماء البديع، وهو اختيار لفظ بدل لفظ آخر هو الأصل في تأدية المعنى، وذلك لغرض بلاغي.
- جاء إطلاق "السماء" على الأمطار؛ لأنها كانت في جهة العلو سحاباً، فهي سماء، إذ كل ما هو في جهة العلو بالنسبة إلى ساكن الأرض سماء لغة، وكل ما علاك فأظلك فهو سماء لغة (7).
والمقصود بالسماء هنا - والله أعلم- ماء المطر، وإن كان من أسمائه عند العرب السماء، وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل (8).
- "عليكم": أيّ: على أرضكم وبلادكم ومزارعكم لمنافعكم وسقياكم وسقيا أنعامكم، ودوابّكم (9).
- "مدراراً": أيّ: إن استغفرتم ربكم يرسل المطر عليكم متتابعاً، كثير الدرور والغزارة، فيكثر الخير والخصب الغلال والثمار، ويعم الرخاء والاطمئنان، والسعادة والاستقرار (10).
﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾: المال والبنون من أولى مطالب الإنسان في الحياة الدنيا، وهما مزيّنان للناس فيها، وقدم الأموال لتعلّق قوم نوح بها، في المرتبة الأولى، وأما معظم الناس فالأولويات عندهم جاءت في قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14].
أو يقال برجحان: إن مقداراً من المال لا يصل إلى القناطير المقنطرة يطلب قبل النساء البنين، ثم إن الاستزادة من الأموال تُطلب بعد البنين، فلكلّ من النصَّين دلالته، وهما يتكاملان في الدلالة على حال الناس، ونظير تقديم المال على البنين بمقتضى هذا التعليل ما جاء في سورة الكهف، قال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: 46]. وكذلك جاء في نصوص أخرى متعددة في القرآن الكريم (11).
﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾: "ويجعل لكم" أي في الدارين "جنات" أيُّ بساتين عظيمة، "ويجعل لكم أنهاراً" يخصّكم بذلك عمّن لم يفعل ذلك، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً (12).
إنَّ الاشتغال بطاعة الله سبب يوجب زيادة البركة والنماء، وانفتاح أبواب الخيرات، وإدرار الأمطار، وزيادة الغلال، ووفرة الثمار، وقد وعدهم الله على الطاعة بخمسة أشياء: إنزال المطر، والإمداد بالأموال، والبنين، وجعل الجنات "البساتين"، وجعل الأنهار (13).
وعن الحسن البصري: أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعاً من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا له الآية "فقلت استغفروا ربكم".
ويلاحظ أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة، لذا أطمعهم نوح بالخيرات في هذه الآية، وآية الاستغفار هذه دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار، قال الشعبي: خرج عمر يستسقي، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأُمطروا، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ثم قرأ: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ (14).
إنَّ من أسباب الرخاء في الأفراد والمجتمع اللجوء إلى الله بالتوبة والاستغفار، وقد ربط الله عز وجل في كتابة الكريم بين الاستغفار والتوبة، ونزول الغيث، وزيادة القوة، وكثرة الأولاد والبنين، والمتاع الحسن، هذا ما بيّنه الله في كتابه على لسان نوح عليه السلام مخاطباً قومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10- 12].
ففي هذه الآية دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق، فنوح أمرهم بالاستغفار والذي هو الإقلاع عن المعاصي، وطلب المغفرة من الله على الذنوب السابقة، وهذا ربط بين القيم الإيمانية والقيم المادية، فما كان للحياة المادية أن تسير في عزلة عن هذه القيم الأصيلة، وما كان لها أن تؤتي ثمارها من دونها، ولئن كان يبدو لنا في بعض الأحيان من حياة الأمم أن هذه القاعدة لا تنطبق، إلا أن هذا هو الابتلاء بعينه، والذي يقول فيهم القرآن: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35].
ثم إن ذلك الرخاء الذي لا يستند إلى قيمة الإيمان، إنما هو رخاء زائف موقوت بالنسبة لأعمار الشعوب والدول والحضارات، رخاء تأكله آفات الاحتلال الاجتماعي والانحلال الأخلاقي، والظلم والبغي وإهدار كرامة الإنسان، وما المجتمعات الأوربية المنحلّة حديثاً إلا أكبر شاهد على ذلك (15).
المصادر والمراجع:
1. عبدالرحمن بن حسن حبنكة الميداني، نوح عليه السلام وقومه في القرآن المجيد، ص 185.
2. أحمد سليمان الرقب، منهج الدعوة إلى الله في سورة نوح، ص 67.
3. الميداني، المرجع السابق، ص 185.
4. ابن القيم، الصواعق المرسلة، 4/ 1223.
5. السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5/ 486.
6. الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص 189.
7. الميداني، نوح عليه السلام وقومه في القرآن المجيد، ص 186.
8. البخاري، رقم 991. وانظر: أحمد سليمان الرقب، المرجع السابق، إلى الله في سورة نوح، ص 230.
9. الميداني، نوح عليه السلام وقومه في القرآن المجيد، المرجع السابق، ص 186.
10. وهبة الزحيلي، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج ، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية، 1418ه، (29/ 142).
11. الميداني، نوح عليه السلام وقومه في القرآن المجيد، ص 187.
12. برهان الدين البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، (8/ 169).
13. د. وهبة الزحيلي، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، (29/ 145).
14. وهبة الزحيلي، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، 29/ 146.
15. شريف الشيخ صالح أحمد الخطيب، السنن الإلهية في الحياة الإنسانية وأثر الإيمان بها في العقيدة والسلوك، الدار العثمانية، عمان، الأردن، ط1 2004م، 1/ 423.
16. علي محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم، دار ابن كثير.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس













