ترك برس

تناول الكاتب والسياسي التركي المعروف ياسين أقطاي، في مقال بصحيفة يني شفق، التحولات العميقة التي أعقبت هجوم السابع من أكتوبر، والذي مثّل نقطة مفصلية في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.

ويرى أقطاي هذا الحدث كشف من جهة عن الوجه الحقيقي لإسرائيل كدولة تمارس الإرهاب والقتل الجماعي بلا رادع، مما أفقدها ما تبقى من شرعية أخلاقية دولية؛ ومن جهة أخرى، أدى إلى انهيار أسطورة "الأمن الإسرائيلي" التي بُنيت عليها عقودٌ من الدعاية الصهيونية.

وخلال العامين التاليين، أعاد الفلسطينيون –وعلى رأسهم حركة حماس– تعريف معاني المقاومة والبطولة في الوعي العالمي، محققين انتصارًا أخلاقيًا وسياسيًا رغم الكلفة الإنسانية الهائلة. وفقا لأقطاي.

كما يبرز الكاتب كيف تحوّلت القضية الفلسطينية إلى رمزٍ عالمي للحرية، كاشفًا زيف القيم الغربية ومزدوجية معاييرها، ومبينًا أن نضال غزة لم يعد محليًا فحسب، بل أصبح معركةً كونية من أجل الكرامة الإنسانية.

وفيما يلي نص المقال:

لقد كشف السابع من أكتوبر حقيقتين مفصليتين: فمن جهة، أظهر دولة الإرهاب الصهيونية الإسرائيلية بكامل همجيتها ووحشيتها، منتهكة كل المبادئ والأخلاق والقوانين الإنسانية. فخلال عامين من العدوان المتواصل، قتلت إسرائيل بوحشيتها ما لا يقل عن 66 ألف شخص، معظمهم من الأطفال وكبار السن والنساء. وبذلك، تثبت إسرائيل بنفسها أنها تشكل تهديداً عالمياً متصاعداً. ومن جهة أخرى شهد ذلك اليوم انهيار أسطورة الأمن الإسرائيلي خلال خمس ساعات فقط، حيث تداعت تصورات الأمن القائمة على التفوق التكنولوجي والاستخباراتي والعسكري، أمام إرادة المقاومين الشجعان وأسلحتهم البسيطة.

خلال العامين اللذين تليا السابع من أكتوبر، تجلت أمام العالم معادلة غير مسبوقة: طرفٌ يهاجم بكل ما أوتي من قوةٍ وغرائز وحشية لا يمكن السيطرة عليها، في مواجهة طرفٍ لا يملك سوى الشجاعة والذكاء. إنها معادلةٌ غير متكافئة أياً كانت الزاوية التي تنظر إليها، ورغم أنها كانت في صالح إسرائيل من حيث العتاد والقوة المادية، إلا أنها كانت تصب في صالح حماس من حيث الإرادة والذكاء والشجاعة والدبلوماسية والتفوق الأخلاقي والمعنوي.

ومع مرور الوقت، تعمّقت هذه المعادلة أكثر فأكثر؛ فكلما بالغت إسرائيل في وحشيتها ودمويتها وتوغلت أكثر في التدمير والقتل والمجازر المروعة والحصار والتجويع، فقدت مزيدًا من عقلانيتها وتعاطف العالم معها. ولم يعد أي عاقل في العالم يبرر أفعالها.

بل إنّ قدرتها على “تسويق” روايتها بشأن هجوم السابع من أكتوبر قد تلاشت تمامًا، وأصبح كثيرون يرون أن ما قامت به حماس كان أقلّ مما تستحقه إسرائيل من ردّ. وبسبب انتهاكها للحدود الإنسانية، تحول التعاطف العالمي الذي كانت تحظى به إلى تعاطف مع القضية الفلسطينية، وأصبحت إسرائيل، على مستوى الدولة والأفراد هدفاً للكراهية التامة.

واليوم بات العالم ينظر إلى إسرائيل على أنها آفة بشرية. كل ما أنفقته لعقودٍ طويلة من استثمارات في السياسة والثقافة والأدب والفلسفة والعلم لتلميع صورتها، انقلب عليها رأسًا على عقب. وانكشف للعالم المعنى الحقيقي للصهيونية التي كان يُنظر إليها كحقٍّ أو ككفارةٍ للهولوكوست. ومع تصاعد الوعي العالمي بقضية فلسطين بكل أبعادها، ظهر إجماع شبه عالمي على أن جوهر المشكلة ليس “فلسطين” بل “إسرائيل” نفسها. وحتى في الولايات المتحدة، تزعزع موقع إسرائيل الذي كان يبدو راسخًا، وبدأ الشعب الأمريكي يتساءل: لماذا تُموَّل من ضرائبه دولةٌ متغطرسةٌ تتصرف بلا مسؤولية وترتكب الإبادة؟

من جهة أخرى، برزت حماس على الساحة العالمية بشكل أكبر وحققت تفوقاً أخلاقياً متزايداً بفضل موقفها المبدئي الذي أظهرته في نضالها منذ 7 أكتوبر، وبفضل جهودها الكبيرة بالإمكانيات المتواضعة، وخطابها، وبطولتها الحقيقية. لقد تحولت القضية الفلسطينية، التي كادت أن تُنسى أو تُهمل حتى من قِبل بعض حلفائها، من مجرد نضال شعب بمفرده من أجل التحرر إلى أن تصبح الكلمة المفتاحية لكل خطاب تحرري على المستوى العالمي.

هذه هي الخلاصة الموجزة للحصيلة الناجمة عن هذه المرحلة من الصراع غير المتكافئ بعد عامين. بالطبع، تتضمن هذه الحصيلة الدمار الشامل لغزة وسقوط ما يقارب مئة ألف شهيد. وعندما نُعرب عن تقديرنا لحماس لردّها العبقري على خطة ترامب بشأن غزة، يسارع بعضهم إلى التساؤل: “هل كان كل هذا الدمار والموت يستحق؟” من الواضح أن من يطرح هذا السؤال لا يدرك ما الذي عاشه أهل غزة وشعب فلسطين عمومًا، ولا يعي ما الذي خاطر به الغزيون عندما خاضوا هذه المعركة، أو ما الذي يعتبرونه هم أنفسهم مكسبًا وانتصارًا في هذا الكفاح.

سبق أن قلنا لمن طرحوا أفكاراً مماثلة: "عقولكم لا تستوعب ذلك، فالمعادلة هنا مختلفة". وهي حقًا كذلك، فحتى من منظورٍ ماديٍّ بحت، فإن المكاسب التي حققتها حماس خلال هذين العامين هي مكاسب هائلة بالنسبة لها. وكما يختتم أبو عبيدة بياناته دوماً بجملته الشهيرة: “إنه لجهاد، نصر أو استشهاد.” كلاهما محسوب في المعادلة، فجميعنا سنموت عاجلًا أم آجلًا.

لا أحد يأتي إلى هذا العالم ويبقى خالدا فيه. ولكن طريقة الموت التي ربما يتمناها الكثير منا لأنفسهم، كانت بالنسبة لـ"يحيى السنوار" أكثر رهبةً؛ أن يموت الإنسان هادئاً في فراشه بعد حياة طويلة، أو بسبب مرض أو حادث سير... لقد قال ذات مرة: "أعظم هدية يقدمها لي أعدائي هي الشهادة"، ولم يكن قوله مجرد كلام. لقد أصبحت طريقة موته رمزاً لكل حركات التحرر القادمة.

إن قتال القائد في الصفوف الأمامية وتحمّله لجميع الأخطار دون أن يميز نفسه عن الآخرين هو أحد أقوى المؤشرات على أصالة الحركة ومصداقيتها. لقد استشهدت الطبقة القيادية بأكملها في حماس جنباً إلى جنب مع عناصرها في الميدان، ولكن الحركة لم تنتهِ أو تتوقف.

ويُشكل تاريخ السابع من أكتوبر أهمية خاصة، حيث يصادف الذكرى السنوية لـ "يوم الغفران" (6 أكتوبر)، وهو اليوم الذي بُنيت فيه أسطورة القوة والأمن الإسرائيليين بشكل متين قبل خمسين عاماً. ففي ذلك اليوم، شلّت إسرائيل دفاعات مصر وسوريا بضربة مفاجئة وصادمة، لكنها لم تحقق ذلك بقوتها أو شجاعة جنودها، بل بتعاون الخونة الذين جنّدتهم داخل الجيشين. أما اليوم، فيمثل "طوفان الأقصى" تدمير أسطورة على أيدي تنظيم غير نظامي بأبسط الأسلحة ولكن بعزيمة صلبة وشجاعة كبيرة.

ورغم التضحيات الجسام التي قامت بها حماس على مدى عامين، فقد نجحت في تحويل قضيتها إلى قضية عالمية وكسبت حلفاء كبارًا. ولكن الإنجاز الأهم هو تأسيس واقع جديد أعاد تشكيل التوازنات العالمية، حيث أصبح موقع إسرائيل في هذه التوازنات موضع شك وعدم استقرار. وهذا ليس مكسباً من الناحية العسكرية أو التوازنات الدولية الجديدة فحسب، بل إن المكسب الأكبر هو فضح الطبيعة العنصرية والمزدوجة للمعايير التي تقوم عليها جميع قيم الغرب، مثل حقوق الإنسان، والديمقراطية، والعلمانية، والعقلانية. وبفضل ذلك، أدرك الناس حتى في الغرب طبيعة السلطة القمعية والاستغلالية المُهينة التي يعيشون تحت وطأتها، وتنبّهوا إلى القيود الخفية التي تُكبل أعناقهم.

فعندما يتظاهر الناس اليوم من أجل فلسطين، إنما يتظاهرون أيضاً من أجل حريتهم. وبذلك يكون أبناء غزة قد قدموا باسم المسلمين جميعا رسالة الإسلام الأكثر سمواً في الدفاع عن الكرامة الإنسانية للعالم أجمع.

ومهما قيل من كلام، فإن تحقيق كل هذه النتائج بهذه الإمكانيات المحدودة يمثل نصراً وإنجازاً لا مثيل له.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!