طارق الجزائري - خاص ترك برس

في هذا العصر الذي نتنفس فيه بيانات وتُحاك فيه مصائر الأمم على شاشات الهواتف وعبر الإنترنت لم يعد العالم محكومًا بالقوة الصلبة وحدها. بل أصبح خيط رفيع من "الوعي" هو ما يفصل بين دولة فاعلة ودولة منسية. في هذا العالم، حيث تُصدر الخوارزميات أحكامها قبل المؤسسات، وحيث تُصنع السمعة الوطنية وتُهدم بـ"تغريدة" عابرة أو مقطع فيديو سريع الانتشار، لم يعد الإعلام مجرد "ترف" أو "واجهة شكلية" للدولة، بل تحوّل إلى أحد أعمدة السيادة الوطنية الحديثة. إنه الجبهة الجديدة التي لا يُسمع فيها صوت المدافع، بل صوت الحقيقة والرواية الأصيلة.

من ضفاف البوسفور إلى قلب دمشق: الدرس الأهم في صناعة الصورة

لعلّ التجربة التركية الرائدة في استثمار قوة الإعلام الرقمي تقدم لنا اليوم نموذجًا ساطعًا ومُلهمًا، يمكن أن يُضاء به الطريق. لم يكن التحول في صورة تركيا حول العالم، من دولة تُعد "طرفًا" في معادلات إقليمية إلى دولة "مركز" وفاعل رئيسي، مجرد صدفة عابرة.

ما فعلته أنقرة لم يكن محض حظ، بل كان فهمًا مبكرًا وعميقًا للعبة العصر. لقد أدركت أن معركة الوعي، التي هي جوهر الوجود في الألفية الثالثة، لا يمكن أن تُخاض بالدبابات أو القوة العسكرية التقليدية وحدها، بل تُحسم على المنصات الرقمية. ولهذا، أنشأت منظومة متكاملة – من وكالة الأناضول العريقة إلى قناة TRT World العالمية ومكتب الاتصال الرئاسي النشط – لتقول للعالم بلغات متعددة وصوت موحد: "هذه هي روايتنا، وهذه هي قصتنا من وجهة نظرنا نحن، لا من عيون الآخرين". لقد استعادت تركيا ملكية صورتها وحقها في سرد حكايتها.

هذا بالذات هو ما تحتاجه سوريا الجديدة اليوم، وهي تسعى لترميم جسدها المنهك وبناء مستقبلها المشرق:

إعلام رقمي موحّد، عصري، علمي، ووطني بالروح والهدف. إعلام لا يكتفي بدور "رد الفعل" السلبي على الدعاية المعادية والاتهامات المغرضة، بل يتحول إلى صانع للرواية الإيجابية المتقنة عن سوريا: بلد يتعافى من جراحه بعزيمة لا تلين، بلد يبني مستقبل أجياله، وبلد يستعيد بكل فخر مكانته الحضارية والسياسية في الوعي العربي والعالمي.

الإعلام الرقمي ليس رفاهية... بل ضرورة مصيرية وأولوية وطنية

عندما نغيب عن الفضاء الرقمي، أو حين يكون حضورنا باهتًا ومشتتًا، تُروى قصة سوريا من أفواه الآخرين: من محللين مغرضين، من قنوات معادية لا ترى سوى الدمار، أو من صفحات مجهولة الهوية تبث السموم واليأس. في غياب السرد الأصيل، يصبح السرد المعادي هو السائد.

لكن حين تمتلك الدولة السورية أدواتها الرقمية الفاعلة، حين تضع هذا الملف على رأس أولوياتها الاستراتيجية، يصبح بإمكانها أن:

  • تواجه التضليل الممنهج ببيانات موثوقة وفورية، تُفند الشائعات وتُرسخ الحقائق.
  • تنشر قصص النجاح والتعافي المذهلة التي يسطرها السوريون كل يوم، بدلاً من ترك الساحة لمشاهد الحرب والدمار التي عفا عليها الزمن.
  • تخاطب الأجيال الجديدة التي هي عماد المستقبل، بلغتها الديناميكية والسريعة، لا بلغة نشرات الأخبار القديمة ذات الإيقاع البطيء.
  • تعيد بناء جسور الثقة المتضررة بين المواطن ومؤسسات الدولة، عبر التواصل المباشر، الشفاف، والقائم على المصداقية.

الإعلام الرقمي لا يجب أن يُفهم على أنه مجرد "صفحات إخبارية على فيسبوك". إنه في جوهره منظومة سيادية متكاملة: فرق تحريرية شابة ومُدربة على فنون المحتوى العصري، محتوى متقن الصياغة يخاطب العقل والوجدان، استراتيجيات تواصل مُحكمة، ومراكز متقدمة لرصد وتحليل الرأي العام العالمي والمحلي.

نحو "دبلوماسية رقمية سورية" تؤسس للمستقبل

كما نجحت تركيا في تسخير الإعلام الرقمي كقوة ناعمة جبارة تعيد تعريفها على الساحة الدولية، يمكن لسوريا أيضًا أن تقدم نفسها من جديد للعالم عبر هذه القنوات المفتوحة:

  • بلد الحضارات العريقة والتنوع الثري، لا بلد تُختزل صورته في مشاهد الحرب والنزاع.
  • وطن الشباب الطموح والمبدع، الذي يملك القدرة على المساهمة في نهضة العالم، لا ساحة تُستنزف فيها الطاقات.
  • دولة تصنع مستقبلها بوعي رقمي مُستنير ومحتوى حضاري يحمل رسالة السلام والبناء.

إن الدبلوماسية الحديثة لم تعد تُدار فقط في قاعات المؤتمرات المغلقة، بل تُخاض معاركها وتُبنى تحالفاتها في فضاءات "X" (تويتر سابقًا) و**"إنستغرام"** و**"يوتيوب"**، حيث تُبنى الانطباعات، وتتشكل المواقف الدولية، وتُصاغ قرارات المستقبل.

ختامًا... معركة الوعي تنتظر جنودها

إن دعم وتمكين وتطوير الإعلام الرقمي السوري ليس مجرد "مشروع إعلامي" هامشي، بل هو مشروع وطني مصيري بكل معنى الكلمة بل هو استثمار في السيادة وفي المستقبل..

ففي زمن الصورة العابرة والمعلومة الفورية، من لا يملك القدرة على صياغة روايته وامتلاك أدوات سردها، سيعيش حتمًا في كنف رواية غيره، يُشكلها له العدو أو المنافس.

إن سوريا، التي قاومت سنوات الحرب ونجحت في تجاوز عواصفها الكبرى بعناد وإصرار، لقادرة بلا شك على أن تنتصر في معركة الوعي والصورة أيضًا – بشرط أن تكون على يقين تام بأن الإعلام الرقمي هو سلاحها القادم والأكثر فاعلية في مسيرة البناء واستعادة المكانة. فلنلتحق بهذه الجبهة، مسلحين بالحقيقة والتقنية والأمل.

عن الكاتب

طارق الجزائري

مستشار في الإعلام الرقمي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس