د. عبد الله محمد فارح - خاص ترك برس

على امتداد سواحل البحر الأحمر، حيث تتقاطع طرق التجارة وتتحرك مصالح الدول الكبرى والإقليمية، تتشكل خريطة جديدة للنفوذ في القرن الإفريقي. لم يعد هذا البحر مجرد ممر ملاحي عابر، بل أصبح مسرحًا لتحولات سياسية متسارعة، تتداخل فيها الحسابات الأمنية بالاقتصادية، ويختلط فيها حضور القوى الخليجية مع مشاريع دولية أوسع. وفي قلب هذا المشهد النابض، تقف الصومال باعتبارها واحدة من الدول الأكثر تعرضاً لتأثير هذه التحولات، وأكثر حاجة إلى أدوات سياسية قادرة على إدارة الضغط الخارجي بحذر ومسؤولية.

وفي هذه البيئة المتشابكة، ييرز فنّ الاحتواء خياراً دبلوماسياً يفرض نفسه، ليس بوصفه ترفاً سياسياً، بل باعتباره آلية ضرورية لحماية الداخل الصومالي من تأثيرات التنافس الإقليمي، وللاستفادة من الفرص دون الوقوع في الاصطفافات، حيث لقد أظهر البحر الأحمر خلال السنوات الأخيرة أنه مساحة تنافس مفتوحة. فدول مجلس التعاون الخليجي، كلٌ وفق رؤيتها الاستراتيجية، وسّعت حضورها السياسي والاقتصادي في القرن الإفريقي. والإمارات دفعت باتجاه شبكة واسعة من الموانئ والاستثمارات اللوجستية، بينما ركزت السعودية على ترتيبات الأمن الإقليمي ومحاولة صياغة إطار يجمع دول البحر الأحمر. وأما دولة قطر فعملت على تعزيز حضورها عبر مشاريع تنموية ومبادرات سياسية ناعمة. ورغم اختلاف الأدوات والأولويات، فإن الفاعلين الثلاثة ينظرون إلى القرن الإفريقي كمنطقة حساسة تستحق الاستثمار والانخراط. وإن هذا الواقع يضع الصومال أمام فرص مهمة، لكنه يضعها أيضًا أمام مخاطر حقيقية إذا لم تُحسن إدارة هذا التنافس.

فعلى المستوى الداخلي، ما تزال الصومال في مرحلة بناء الدولة، وتسعى إلى ترسيخ نظام سياسي فدرالي يعاني من هشاشة واضحة في العلاقة بين المركز والولايات. ومن الطبيعي أن تتأثر بيئة سياسية بهذا القدر من التعقيد بأي تدخل خارجي، خاصة إذا جاء في سياق تنافس بين قوى مؤثرة. وقد شكّلت الأزمة الخليجية عام 2017 مثالاً ملموساً على ذلك؛ إذ أدت إلى انقسامات داخلية حادة بين مؤسسات الدولة، وكشفت مدى سرعة انتقال التوتر الخارجي إلى الداخل الصومالي. ومن هنا أدرك الكثير من صناع القرار أن الاصطفاف مع طرف إقليمي هو خطوة محفوفة بالمخاطر قد تزيد من انقسام الساحة المحلية أو تضعف سلطة الدولة المركزية.

وإن هذا الإدراك فتح الباب أمام تبني نهج يقوم على «الاحتواء» بدلاً من المواجهة أو الانحياز. فالاحتواء يعني إدارة العلاقات الخارجية بطريقة متوازنة تسمح بالاستفادة من الدعم والاستثمار، دون السماح بتحول الصومال إلى ساحة صراع بالوكالة. ويعني كذلك أن يكون لصانعي القرار القدرة على استقبال كل الأطراف دون السماح لأي منها بالهيمنة على القرار الوطني. وهو فنّ يتطلب تدرجًا في المواقف، ومرونة محسوبة، وقراءة دقيقة للمتغيرات الإقليمية، حتى لا تفقد الدولة استقلاليتها أو قدرتها على المناورة.

ومن أهم وظائف هذا النهج أنه يحمي الداخل الصومالي من التأثر بالتجاذبات الخارجية. فعندما تتمكن الدولة من بناء خطاب سياسي موحد ومتماسك، يصبح من الصعب على أي فاعل خارجي استغلال الانقسامات المحلية. وكما يساعد الاحتواء في تعزيز الثقة داخل المؤسسات الوطنية، ويقلّل من فرص التدخل المباشر أو الضغط السياسي الذي قد يأتي من أطراف إقليمية متنافسة. ومع ذلك، لا يتوقف الاحتواء عند حدود السياسة الرسمية؛ فالإعلام والمجتمع المدني والقطاع الخاص يمتلكون دوراً مهماً في ضبط إيقاع العلاقة مع الخارج. فالتجار الصوماليون الذين تربطهم علاقات اقتصادية واسعة بالخليج يمكن أن يكونوا جسراً مهماً للتواصل، بينما يسهم الإعلام الواعي في الحد من الاستقطاب، ويعمل المجتمع المدني على تعزيز الوعي الوطني وتجنيب الرأي العام الانجراف وراء الخطابات الانفعالية.

وتزداد الحاجة إلى هذا النهج في ظل التحولات العالمية والإقليمية المتسارعة. فالمنافسة في القرن الإفريقي لم تعد خليجية فقط، بل تتداخل فيها أدوار تركيا وإثيوبيا والصين والولايات المتحدة، وكلها قوى تسعى إلى تعزيز نفوذها في المنطقة. وهذا التعدد في الفاعلين يزيد من تعقيد البيئة السياسية للصومال، ويجعل تبني سياسة احتواء متوازنة ضرورة استراتيجية أكثر من أي وقت سابق. فمن دون توازن في العلاقات، يمكن أن تجد الصومال نفسها أمام استقطاب يهدد استقرارها الهش، أو أمام فقدان فرص تنموية كان يمكن أن تستفيد منها لو أدارت علاقاتها بشكل أوسع وأذكى.

إن فنّ الاحتواء ليس مجرد سياسة خارجية، بل ممارسة يومية تؤثر في مسار بناء الدولة وقدرتها على التعامل مع محيطها. وهو خيار واقعي يتيح للصوماليين وضع مصلحتهم الوطنية في صدارة التفاعلات الإقليمية، مع الحفاظ على مساحة مناورة تمنع وقوع البلاد في دائرة النفوذ الأحادي. وفي زمن تزداد فيه التحولات، وتتعاظم فيه المصالح المتقاطعة فوق مياه البحر الأحمر، يبدو هذا الفنّ أحد أهم الأدوات التي يمكن للصومال أن تعتمد عليها لضمان قدر من الاستقرار، وخلق بيئة مناسبة لتعزيز التنمية وإعادة بناء المؤسسات.

وفي النهاية، ستتحدد مكانة الصومال في السنوات المقبلة بناءً على قدرتها على ممارسة هذا الاحتواء بكفاءة وهدوء. فالواقع الإقليمي لن يهدأ قريبًا، والتنافس لن يتراجع، لكن إدارة هذا الواقع بذكاء يمكن أن يحوّله من تحدٍّ إلى فرصة، ومن مصدر ضغط إلى عنصر قوة يدعم مسار الدولة نحو مزيد من الاستقرار.

عن الكاتب

د. عبد الله محمد فارح

رئيس مجلس ادارة منظمة مستقبل الصومال الشبابية وباحث في شؤون القرن الإفريقي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس