متحف أورفة والمدينة المجاورة له
محمد عبد اللطيف - نون بوست
من الجنون فنون، ومن الجنون أن تذهب في رحلة وحيدًا قبل بدء امتحاناتك بأسبوع بعيدًا إلى أقصى جنوب شرق تركيا، بالقرب من الحدود السورية والحدود العراقية، في رحلة إلى عالم آخر لا يعرفه الكثيرون عن تركيا، أُناس غير الإناس الذين قد تكونوا اعتدتم على رسمهم في مخيلتكم عن الأتراك، تقاليد وعادات مختلفة، وجوه وحكايات متفرقة، في رحلة قمت بها إلى أربع مدن مميزة وهي؛ ماردين، أديامان، ديار بكر، وأورفة.
لن أبدأ بترتيب مقالاتي هنا على أساس الترتيب الزمني الذي قمت به في رحلتي، ولكن دعوني أبدأ بمدينة أحببتها كثيرًا ونويت زيارتها مجددًا - وهذا لا يحدث كثيرًا بالمناسبة -، ألا وهي مدينة شانلي أورفا، الغريب أنني زرت تلك المدينة بعد اشتعال الأحداث بكوباني - عين العرب - بفترة ليست بعيدة، كوباني تلك التي تبعد عن أورفة بساعات قليلة.
مدينة أورفة، أو "الرُها" كما تُعرف في المصادر التاريخية العربية، تقع في الجنوب الشرقي على الحدود السورية وبها كثافة سكانية عالية من العرب، والعديد من الأماكن الأثرية ذات القيمة الدينية والتاريخية، عندما تتجول في أورفة وأسواقها سوف تجد الكثير من العرب، سوف تسمع الكثير من اللغة العربية، ليس فقط بسبب قدوم الكثير من السوريين إليها، لكن لأن الكثير من العرب أصحاب الجنسية التركية يقيمون بها، بل اللطيف أن تجد الكثير من العرب الأتراك يعيش جزء من عائلاتهم في سوريا والجزء الآخر يعيش في تركيا، وبعد فترة من الزمان وأجيال تعبر بعد أجيال، أصبح نصف العائلة تركي الجنسية ونصفها الآخر عربي الجنسية.
عندما تصل لمركز المدينة سوف تجد أشهر معالمها، وهي بحيرة الأسماك، والتي يهتم الجميع بإطعام الأسماك فيها وتدور حولها إشاعة أن من يلمس الأسماك فيها يصيبه الأذى، إذ يُقال إن محاولة حرق نمرود لسيدنا إبراهيم عليه السلام تمت في هذه المنطقة، وعندما أمر الله عز وجل أن يجعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم تحولت النار إلى هذه البحيرة - كما يُدعى -، وتحول حطبها إلى أسماك، وفق الأسطورة المشهورة هنا!
بحيرة الأسماك في أورفة
على ضفة البحيرة يقع مسجد خليل الرحمن، ومدرسة خليل الرحمن التي بنيت في عهد الدولة العثمانية، وعلى الضفة الأخرى جامع الرضوانية ومدرستها، وعلى بعد خطوات من البحيرة يوجد مغارة يدعون أن سيدنا إبراهيم وُلد فيها، لذا يزورها الكثيرون داعين مصلين في هذا المكان، وبجوارها بُني جامع مولد الخليل.
تتميز أورفة أيضًا بتواجد الكثير من الأسواق، وللمدينة جو ونكهة عربية خالصة، قد يكون هذا هو السبب الذي جعلني أحبها كثيرًا وأتمني أن أكرر زيارتي لها مرة أخرى، فأسواقها من أبرز وأهم المعالم التاريخية التي لا زالت محافظة على طابعها التقليدي بين أبنية وأزقة المدينة، وتتنوع داخلها المعروضات المنمقة والمزينة، والتحف المزخرفة، إضافة إلى البهارات والأطعمة والحلويات.
صناعة السجاد التقليدي حرفة لا زال البعض من الدكاكين القديمة يحافظون على ممارستها؛ بنسج الجديد وإصلاح القديم منها لتعود إلى الاستعمال، كذلك لا يمكن أن تفوت الفرصة لشراء البهارات من تلك المدينة التي يشتهر طعامها بأنه مبهر، لذا فمن الطبيعي أن يذوب عشقًا فيه أي زائر عربي مقيم بتركيا، حيث يجده جنة بالمقارنة ببعض الأطعمة التركية الأخرى التي تختلف عن ثقافتنا الغذائية، ولهذا السبب قد نشعر أحيانًا أنها بلا طعم .
قد يتساءل البعض عن سبب وجود هذه المدينة بتركيا إذا كان الكثير من قاطنيها من العرب، والسبب أنها ضُمت إلى تركيا بموجب معاهدة لوزان فيما كانت من قبل تابعة لسوريا.
لأورفة مكانة كبيرة لدى الكثير من الأتراك، فهي، كما يسمونها، مدينة الأنبياء، يأتي إليها الزائرون من سائر أصقاع تركيا، فأورفة التي تتميز بوجود الكثير من الآثار فيها تعتبر من أقدم مدن تركيا، سوف أكتب في السطور الآتية ما يعتقده الأتراك في أورفة، غير مؤكد ولا ناف لصحة تلك المعلومات من عدمها، لأنني هذه المرة غير واثق في "مبالغة" الأتراك أحيانًا في نسب كل ما هو مميز وفريد إلى تركيا، لذلك سأكتفي في السطور القادمة بذكر ما يدور حول تلك المدينة الجميلة.
تعد أورفة أحد المراكز السكانية السبعة الأولى بعد طوفان نوح، لذلك فعمرها يقرب من 9 آلاف سنة، لذا يعتقد السكان أن منازلها لنا نظام خاص مميز وفريد، أما الآن فتُعد تلك المنازل من الميراث العثماني ومن أقدمها في الأناضول، ويتم الاعتناء بتلك الأبنية من قِبل الحكومة، وأصبحت الآن مزارات تاريخيةـ مثل منازل مدينة حران التابعة لأورفة.
تتميز شوارع أورفة، وخاصة القديمة منها، بضيقها نظرًا لشدة حرارة جوها وشمسها، لذلك تلك الشوارع الضيقة حلًا مثاليًا للترطيب على السائرين فيها وتوفير الظل لهم.
وتلك المنازل العتيقة الموجودة بها تُعد شاهدًا على تلك الحضارة، وأثناء سيري وسط تلك المنازل أحسست إحساسًا لا أستطيع وصفه بالكلمات، ولكن ملخصه هو أنني لم أرد مغادرة تلك المدينة، وسوف أترككم مع بعض الصور الآن لتشاهدوا معي جمال تلك البيوت، ثم نستكمل رحلتنا سويًا.
يقول الأتراك إن تلك المدينة مر وأقام بها الكثير من الأنبياء كسيدنا أيوب، إبراهيم، يعقوب، وموسى، بل أنهم يدعون أن مقام صبر أيوب وبئره وبيته وكل شيء في أورفة! وكما وضحت لا أملك أن أصدق أو لا، لعدم معرفتي الجيدة بالتاريخ والجغرافيا، فأنا مجرد مسافر أروي ما أجده، وأنقل ما يُشاع هنا عن فضل تلك المدينة.
مقام النبي أيوب عليه السلام
مما أدهشني بأورفة أنه على الرغم من كونها محافظة على الحدود السورية، إلا أنها متقدمة ونظيفة، وليس كما يتصور البعض عنها، فجنوب شرق الأناضول تم به العديد من الإصلاحات، ومما أدهشني أيضًا وجود مول كبير جدًا أمامه متحف ضخم جدًا، بينهما مسافة فاصلة تستخدم كحديقة ومكان عام في أورفة، مول كبير كهذا مستحيل أن نجده في مصر في إحدى المحافظات مثلًا، فللأسف في مصر لا يتم توفير الخدمات الترفيهية بكثرة في المحافظات بخلاف المشهور منها كالقاهرة والإسكندرية وخلافه.
وسط المدينة
أثناء تجولي في أورفة كنت أحيانًا أشعر كأني في مصر، في منطقة القلعة، البيوت متشابهة، الوجوه ليست مختلفة تمامًا، كنت أمشي لساعات دون ملل أو تعب، أراقب الناس ويراقبونني، أشاهد جمال البيوت وتحس بمروري بجانبها، أتأمل جمال الطبيعة وأنظر إلى السحب التي تشكل لوحة فنية في السماء، مكثت أغلب وقتي في اليوم الأول في وسط المدينة بجوار بحيرة الأسماك والمنطقة المجاورة، تلك المنطقة الهادئة الساكنة رغم كثرة الزائرين، لا أدري لماذا، لكنها بعثت بداخلي السلام النفسي، ليس لإيماني بما يخبرون عنها، لكن لون المياه والظلال وصوت الطيور، كل هذا بعث في نفسي ذلك الإحساس الذي أود قطعًا العيش فيه مرة أخرى، ولو أنني أسكن هنالك، لوددت أن أذهب يوميًا إلى ذلك المكان قبيل الغروب، فقط لأجلس وأتأمل، قد يكون هذا هو سر اختياري لغلاف الكتاب من ذاك المكان، حيث إنه من أحب الأماكن لقلبي في تركيا.
شوارع المدينة القديمة
بعد الانتهاء من تلك الجولة فكرت في زيارة مدينة خلفتي التابعة لمحافظة أورفة، والتي تبعد عنها ساعتين من الزمن، ولكن لأن الوقت لم يكن ليسعفني ففضلت تأجيل تلك الزيارة إلى وقت آخر، فزيارة مدينة خلفتي من الأشياء التي أنوي قطعًا فعلها، فلقد وددت دومًا رؤية نهر الفرات وأخذ جولة نهرية به، بلون مياهه الساحر، ومدينة خلفتي أصابها فيضان أغرق الكثير من بيوت المدينة وبناياتها، لذا لا تتعجب إن رأيت مئذنة قائمة إلى الآن في النهر، حيث إن الفيضان أغرق الجامع بأكمله تاركًا المئذنة تخبرنا بما كان موجودًا هنا يومًا ما.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس