د. أحمد موفق زيدان - خاص ترك برس
ظلت باكستان منذ نشأتها حليفًا ظاهريًا على الأقل لوريثة الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية أميركا، ولكن حين جدّ الجدّ واشتد الخطب على باكستان في مفاصل تاريخية مهمة لم تجد باكستان حليفتها أميركا، وإنما وجدت نفسها كمن يصرخ في البرية طالباً النجدة من أسطول أميركي وعد بالوصول لإنقاذها إبان انفصال بنغلاديش عنها 1971، وهو الأسطول الذي لم يأت بعد ولن يأتي، وحين احتاجت أميركا باكستان لتكون نافذتها على الصين لعبت باكستان الدور كما أرادته واشنطن فاستقبلت سرياً يومها وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر وتوجه منها إلى الصين وبدات ديبلوماسية البينغ بونغ، وبعد سنوات كانت باكستان على موعد تاريخي آخر مع التلاقي الأميركي في أفغانستان لتطوير الحرب الباردة مع السوفييت إلى حرب ساخنة ساحتها أفغانستان...
استفادت أميركا من باكستان بإدماء الدب الروسي عبر المجاهدين الأفغان، ولكن نجحت باكستان بالمقابل بفرض شروطها الكاملة على طريقة التعامل والتعاطي مع الحدث الأفغاني إن كان بتقديم نفسها كمقاول شرعي ووحيد للجهاد الأفغاني، بحيث كل الدعم والمساندة للجماعات الأفغانية عن طريقها فقط، وهي من تحدد نسبة الدعم لكل فصيل، وهو ما وفّر لها علاقات وصلات وتأثيرات لا تزال متواصلة على كل المجموعات الأفغانية، كما استفادت باكستان أيضاً من الغطاء الأميركي ببناء مفاعلها النووي الذي كان بحاجة لشهادة الرئيس الأميركي سنوياً أمام الكونغرس على أنها لا تبني مفاعلاً نووياً، وإلا فتتعرض لقطع المساعدات الأميركية عنها، إذ كانت تعد المتلقي الثالث للدعم الأميركي بعد إسرائيل ومصر..
لكن سنوات العسل الأميركية ـ الباكستانية لم تستمر، فقد أُغتيل الرئيس الباكستاني السابق الجنرال ضياء الحق مع خيرة جنرالاته في حادت تحطم الطائرة الشهير 1988 وأشار البعض بأصابع الاتهام للاستخبارات المركزية الأميركية التي كانت تخشى من بروز تكتل إسلامي قوي من إسلام آباد إلى كابول، ومع بدء الانسحاب السوفياتي من أفغانستان وقرب الانتصار العسكري للمجاهدين الأفغان، ومنها بدأت الاستدارة العلنية الأميركية القوية باتجاه الهند بعد أن استنفذت أغراضها من باكستان وفرضت عليها العقوبات الاقصادية والعسكرية، ومعها لجأت إلى إيران في طلب خدماتها بدعم وتسهيل هجومها على طالبان الخصم المذهبي والسياسي والتاريخي لإجلائها عن السلطة، وهو ما دفع باكستان إلى حجز مقعد لها في هذا الهجوم تحت عنوان الحرب على الإرهاب، خشية أن تتخلف عن الركب بعد أن تقدم عليها و بزّها بالعلاقة مع الأميركيين طهران ونيودلهي...
كل هذه السياسات الأميركية جذّرت العداء المجتمعي الباكستاني لواشنطن وسياساتها، وهو ما دفع جنرال أميركي يقول يوماً إنه لا فرق في العداء الباكستاني لأميركا بين خطيب من على منبره يهاجم أميركا وجنرال باكستاني يحتسي نخباً من الويسكي، مثل هذه السياسيات العدائية لباكستان والخذلان لإسلام آباد خلق وصنع جيلاً طالبانياً وقاعدياً فيها ، وصنع معه عداءاً باكستانياً غير مسبوق، بل ويتصاعد بشكل طردي ستحصد واشنطن لاحقاً مره وعلقمه..
هذه المقدمة عن باكستان والسياسة الأميركية اليوم تنسحب على تركيا، فالمشهد الأميركي مع تركيا في الثورة السورية وتفضيلها التعاون مع إيران على حساب تركيا التي كانت حليفاً غربياً وأميركياً مميزاً لعقود، ولم تشفع لتركيا كل هذه الخدمات التي قدمتها للغرب وأميركا على امتداد العقود الماضية، لتجد أنقرة نفسها اليوم عارية أمام التغول والصلف الإيراني على حدودها في العراق وسورية دون أي رقيب أو حسيب، بل وبمساعدة أميركية وغربية مكشوفة ومفضوحة، وفوق هذا الصمت الغربي إزاء التقارير التي تتحدث عن دعم إيراني للمجموعات الكردية التركية..
لم يُفلح قادة تركيا على مدى سنوات في إقناع الغرب بإقامة منطقة آمنة عازلة لملايين السوريين الهاربين من الجحيم الإيراني و الروسي والطائفي في الشام، على الرغم من أن مثل هذه المنطقة العازلة والآمنة ستحمي أوربا كلها من موجات الهجرة واللجوء التي تجتاحها، ولكن على ما يبدو فإن أميركا والغرب بشكل عام حسموا خيارهم وهم قد حسموها منذ عقود ولكن تأخر بعضنا في فهمه من أن هذه الدول التي صُنعت فيما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية إنما هي دول للأقليات فقط، والأكثرية السنية المقيمة فيها هي فائض سكان، يمكن التخلي عنهم سريعاً كما يجري اليوم في تباري الغرب وتسابقه بقبولهم كمهاجرين لديهم، من أجل الإبقاء على طاغية الشام..
واشنطن خذلت أنقره تماماً بدعم الأكراد وتشجيعهم على إقامة كانتونهم العرقي وسياسات تطهيرهم العرقي على حدود تركيا، وكذلك بخذلانها في عدم تسليمها الملف السوري وإنما توزيعه على تركيا والأردن، وحين سلمته لها لم تثق بها، ولا تتعامل معها أبداً كحليف كما ادّعت لعقود، وعلاوة على ذلك كان الرفض الأميركي للاستجابة للإنشغالات التركية على حدودها، فسعت واشنطن إلى نسخ مشروعها الأردني بتدريب المجموعات السورية، في تركيا ولكن الأخيرة لم ترتاح للمشروع فسعت إلى تفشيله كي لا يتحول المشروع إلى مشروع معاد لها..
اليوم مع الغزو الروسي للسواحل السورية المواجهة لتركيا لم تتحرك واشنطن لدعم حليفتها تركيا، لا سيما أن ذلك سبقه سحب بطاريات صواريخ باتريوت الأميركي، وهو تحرك أميركي مثير للجدل، ويشير الانتشار العسكري الروسي في الساحل السوري إلى أن غاياته أكبر من مواجهة داعش كما هو معلن روسياً، إن كان من توسيع القاعدة الجوية بـ حميميم، أو من نشر أجهزة مضادات جوية متنقلة، بالإضافة إلى الطائرات الضخمة الروسية المنتشرة كله يشير إلى أن المستهدف هو تركيا، يقابله صمت أميركي وفي أحسن الأحوال تعبير عن القلق، لكن سريعاً ما تبدد بعد أن اتجه الأميركيون إلى مفاوضات عسكرية مع الروس بشأن تنسيق تحركات الطرفين في الشام..
لكن على تركيا أن تعي وتدرك شيئاً مهماً أن باكستان لم تستنبت مشاريعها في أفغانستان وإنما رعت مشاريع موجودة أصلاً ودعمتها ولذا فقد نالت قبولاً في البداية لدى الحزب الإسلامي الأفغاني بزعامة قلب الدين حكمتيار ثم بمشروع حركة طالبان أفغانستان وكلاهما كانا مشروعين وطنيين أصليين، ولذا فعلى السياسة التركية أن تدفع باتجاه دعم مجموعات سورية وطنية مقبولة شعبياً ووطنياً، بعيداً عن العرقية، فالمعروف أن الشعب السوري لديه حاسة سادسة هي الوطنية، وبالتالي فإن التلاعب بها قد يؤدي إلى مفاعيل عكسية لا تُحمد عقباها..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس