د. مدى الفاتح - خاص ترك برس
حتى يخرج الروس من الحصار الذي كان يصور بلادهم كدولة غازية متدخلة لصالح بشار الأسد في سوريا كانوا يقولون إن الولايات المتحدة تتشارك معهم أهدافًا كثيرة أهمها حرب تنظيم الدولة وأنهم، أي الأمريكيين، يخفون نواياهم ولا يعلنون فعلًا ما ينوون فعله.
لم يخل ذلك الكلام الذي كثيرًا ما ردده الدبلوماسيون والسياسيون الروس من الصحة وهو تفسير جيد لحالة الارتباك التي تميز بها السلوك الأمريكي والتي تجعلنا نتساءل عما إذا كان للبيت الأبيض فعلًا خطة عمل واضحة أو مستترة في سوريا.
صحيح أن التفات أوباما للمأساة كان مبكرًا بإعلانه بعد عدة أسابيع من اندلاع أعمال القمع العنيف أن بشار الأسد قد فقد شرعيته وأنه لا مكان في هذا العالم لرئيس يقتل شعبه، لكن صحيح أيضًا أن الإدارة الأمريكية لم تكن تملك حينها ولا في أي وقت آخر استراتيجية واضحة ولا مقترحًا لحل القضية.
تصريحات أوباما كانت مفخخة ومستدرجة للآخرين فقد فهمت على أساس أنها نية أمريكية للتدخل لصالح الشعب السوري وعلى هذا الاستنتاج سارت بوصلة الكثير من دول المنطقة التي اعتبرت أن الوقت قد حان للمشاركة في حفل تقاسم الكعكة السورية والاستعداد لمرحلة ما بعد الأسد.
لكن العزم الأمريكي سرعان ما تراجع حين اقترب أكثر من المشهد وبعد اكتشافه أن الخصم هنا، وبخلاف الحالة الليبية، لن يكون فقط النظام السوري المتهالك والجيش ذو الامكانيات التي تبقى محدودة، بل أيضًا روسيا التي تحركت في هذا الملف منذ وقت باكر جدًا وإيران التي سوف ينقض أي احتكاك معها مساعي التطبيع معها.
لدهشة الأمريكيين وكثير من المتابعين للشأن السوري فإن الكيان الصهيوني، الذي كان وما يزال يتابع تطورات الشأن السوري باهتمام، لم يكن متحمسًا منذ البداية لإزالة النظام بشكل مفاجىء وهو ما وضحه نتنياهو لأوباما في اللقاء الذي جمعه به في البيت الأبيض بعد بداية الأحداث.
يمكن أن نرى أثر وجهة النظر الاسرائيلية في كبح رغبة التدخل الأمريكية الأولى، كما يمكن رؤية بصمتها في كل الإجراءات التي اتخذتها الدول الكبرى في الشأن السوري، فقد كان الكيان الصهيوني وما يزال الأكثر خبرة من الجميع في هذا الشأن ولا يمكن لأي متدخل جديد أن يتجاهل نصائحه ومعلوماته الاستخبارية والتحليلية عن الأوضاع في المنطقة.
الإسرائيليون الذين قدموا استشارات استراتيجية لكل من الأمريكيين والروس أعلنوا منذ البداية أنهم لا يخشون على أنفسهم من نظام الأسد الذي جاورهم كجار طيب لعقود بقدر ما يخشون من المستقبل الغامض لسوريا القادمة.
ربما لعب نتنياهو وأركان حكومته دور المنسقين بين الروس والأمريكيين الذين كان يجمعهم الحرص على سلامة الكيان الصهيوني ووقايته من أي خطر أو تهديد. الثابت بشأن روسيا على الأقل هو أن أول من نشر خبرًا عن نية روسية وشيكة للتدخل العسكري في سوريا كان صحيفة يديعوت أحرونوت وهو ما يؤشر لحجم التقارب الروسي- الإسرائيلي الذي تتوج بالزيارة التي قام بها نتنياهو إلى موسكو عشية التدخل الروسي والتي كان من الواضح أنها تهدف إلى تقديم المشورة والنصح إلى اللاعب الروسي الجديد.
هكذا التقى الروسي مع الإسرائيلي مع الإيراني على هدف واحد، وهكذا أصبح ما كان يسمى بالكيان الصهيوني أمس في الأدبيات البعثية جزءًا أصيلًا من محور المقاومة والممانعة..!
كان الوضع كالتالي: تأهب إيراني وجاهزية روسية لإسناد "محور الممانعة" في مقابل عداء بلغ مداه للنظام السوري من قبل الدول العربية سببه ليس فقط الضغوط الشعبية ولكن أيضًا ما تم فهمه من ظاهر الرسائل والخطب الأمريكية الرنانة التي كانت توحي بعزم الولايات المتحدة على تنحية الرئيس الذي فقد شرعيته.
للأسف فإن كل ذلك قد تزامن مع إدارة أمريكية مترددة كانت قد بدأت الاقتناع بوجهة النظر الاسرائيلية التي ترى أن إزاحة الأسد يجب أن لا تكون أولوية.
زاد الارتباك والتردد بشكل واضح بعد ظهور الحركات الإسلامية المقاتلة التي أضافت معطيات جديدة للمعادلة أهمها إمكانية إسقاط الأسد وتحويل سوريا إلى طالبان أو تورا بورا جديدة أو على الأقل دولة إسلامية معتدلة لكن معادية للمصالح الغربية وللوجود الإسرائيلي. هذا الافتراض لم يقلق فقط الولايات المتحدة وحليفتها اليهودية، بل أيضًا دول المحيط العربي التي يكن بعضها عداءًا هستيريًا لما تسميه بـ"جماعات الإسلام الإسلامي" لا يقل عن عدائها للنظام الأسدي.
أهم ثمار حالة الارتباك هذه كان انتصار المعسكر الذي يرى أنه لم يعد هنالك مبرر للتسرع في حل الأزمة عبر تنحية الأسد ونظامه وأن الأولوية يجب أن تكون محاربة المتطرفين المتشددين، وهنا يمكننا أن نفهم السر وراء الرفض الأممي الصارم لمقترح إقامة منطقة حظر جوي في سوريا أو منطقة آمنة رغم ما تمثله من حل على الأقل لمشكلة تدفق اللاجئين على دول الجوار.
الواقع أن الدول العربية التي لامت لاحقًا الولايات المتحدة لارتباكها وضعفها كانت هي من تسبب في هذا الارتباك وهي من استفادت منه بشكل كبير، فمن ناحية استخدمته للإيحاء لشعوبها بأن أميركا وروسيا هم معسكر واحد وأن الغرب يقف مكتوف اليدين أمام ما سميت إعلاميًا بمأساة القرن، ومن ناحية أخرى كانت تعرقل، بأشكال مختلفة، تحقيق المعارضة ذات الطابع الإسلامي لأي نجاح كبير قد يحسم الأزمة لصالحها.
في الداخل الأمريكي لم يكن الأمر سهلًا وكانت هناك تجاذبات مهمة بين جناح الدور الإنساني للولايات المتحدة والجناح الآخر الذي يرفض إضاعة أموال دافعي الضرائب في مغامرات غير محسوبة. بعد مشاورات داخلية وخارجية تفتق الذهن الأمريكي عن فكرة تتلخص في ضرورة بناء قوة على الأرض تكون مستقلة عن التنظيمات ذات الخلفية الإسلامية. قوة يوكل إليها لاحقًا بناء جيش علماني ودولة جديدة وهو ما يمكنه أن يرضي جميع الأطراف.
الفكرة فشلت رغم كلفتها المادية العالية لأنها بحثت عن شيء لا وجود له، فلا توجد على الساحة السورية قوة علمانية مقاتلة ذات وزن وحتى المقاتلين ذوي الانتماء الوطني والقومي العلماني فهم سرعان ما يعلو صوتهم بصيحات التكبير في الميدان وسرعان ما يصبحون كغيرهم بانتظار النصر أو الشهادة.
أما محاولة خلق مقاتلين بلا انتماء فهي لم تكن أكثر نجاحًا لأنها عنت بالضرورة إيجاد مقاتلين يقاتلون من أجل المصلحة والمال وهؤلاء، حتى وإن كانوا سوريين، فهم مرتزقة لا يمكن الاعتماد عليهم أو توقع انتصارهم على قوات النظام أو حتى على تنظيم الدولة الذي ينطلق، برغم فوضويته، من عقيدة تحركه وتقوده.
الأمريكيون لم ييأسوا ولجؤوا إلى دعم وتسليح قوات حماية الشعب الكردية التي ارتكبت بدورها جرائم حرب موثقة ضد المدنيين من العرب والتركمان في المناطق التي سيطرت عليها. كانت تلك خطوة متخبطة بلا شك حيث لا تخفي العلاقة بين هذه القوات وحزب العمال الكردستاني المصنف تركيًا وأوروبيًا على حد سواء كتنظيم إرهابي.
الفصام بين المسألة الإنسانية في سوريا وضرورات التوازن السياسي العالمي أنتج تحركات أمريكية غير جادة لا في محاربة الإرهاب ولا في إنهاء حكم بشار الأسد وهو ما سمح للاعبين آخرين كروسيا بملء هذا الفراغ وفرض أجندتهم الخاصة التي كان التدخل العسكري المباشر أوضح تجلياتها.
هنا علينا أن لا نغفل دور تلك الشريحة من صناع الرأي والقرار الأمريكيين الذي يرفضون بشدة أي تورط جديد للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط تحت أي ظرف وعنوان بعد تجارب الفشل المريرة في العراق وأفغانستان وكم التضحيات. كان لأولئك بالتأكيد تأثير على مسار الأحداث خاصة وأنهم يرون أن التدخلات الأمريكية لم تؤد في أي مكان إلى حل سياسي أو أمني شامل ومرضٍ.
هل كان الرئيس الأمريكي يكذب حينما قال خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن على بشار الأسد أن يذهب وأن لا مكان له في أي حل قادم؟ أم أنه كان يخفي نواياه، كما يزعم الروس، فيكسب تعاطف المستمعين المنشغلين بالحالة الإنسانية من جهة، في حين لا يقوم على الأرض بما يغضب الآخرين الرافضين للتدخل الأمريكي المباشر في سوريا؟
محاولة التذاكي الأوبامية هذه فضحها المتابعون فوصفوه بالمتناقض وكذلك فعل الكاتب إليوت إبرامز الذي نشر مقالًا في ناشيونال في 28 أيلول/ سبتمبر عنونه كالتالي: "خطاب أوباما السريالي في الأمم المتحدة".
سريالية أوباما لم تقتصر على تناقضاته حول الشأن السوري بل أيضًا تمددت لتشمل حديثه عن القيم الديمقراطية في الوقت الذي تتمتع فيه بلاده بعلاقات مميزة مع أهم ديكتاتوريات العالم.
كان خطابًا مفارقًا للواقع خاصة حين تحدث عن أنه لا يجب الوقوف مكتوفي الأيدي أمام ما تقوم به روسيا من تدخلات خاصة في أوكرانيا. كان ذلك لمجرد الإيحاء بأن أمريكا تتحضر لشيء ما، أما ما فهمه الروس وهم الأكثر خبرة منا بغريمهم الأمريكي فقد كان أن ذلك يعطي الدور الأخضر للاستمرار ليس فقط في انتهاك السيادة الأوكرانية ولكن أيضًا الدخول بقوة عسكريًا في سوريا في ظل منع السلاح عن أوكرانيا وعن الثوار السوريين برعاية الغرب والولايات المتحدة التي، ولسبب غامض، لا تريد إغضاب روسيا.
ربما تكون القراءة الروسية للنوايا الامريكية صحيحة وربما تكون مجرد عمل دعائي لكسب التعاطف. على أي حال فإنها لن تكون المرة الأولى التي تظهر فيها الولايات المتحدة خلاف ما تبطن. المثال الذي يأتي على بالي الآن هو أن الأمريكيين، كما ذكر تيم واينر في كتابه عن تاريخ السي آي إيه، كانوا يدعمون ظاهريًا مصدق إيران في الخمسينات في حين كانت السي آي إيه تشرع في العمل على إسقاطه (124ص)، وهو ما تكرر لاحقًا في أكثر من مرة فتظاهر الأمريكيون بحماية القيم الديمقراطية وشرعية الصناديق في حين كانوا يعملون بجد على إسقاط الزعماء المنتخبين المشاكسين.
تلك الحالة من الارتباك أو التخبط أفادت روسيا بكل تأكيد لكنها أفادت إيران أيضًا التي أمنت جانب الغرب بعد الاتفاق النووي وتوقف العقوبات فانطلقت فارضة نفسها وفيالقها من جديد في الوقت الذي يدعو فيه خطابها الرسمي لمنع أي تدخل خارجي في الشأن السوري.
الحقيقة أنه كان لإيران وروسيا سياسة واضحة وثابتة منذ بدايات الأزمة وهو ما لم تتمتع به لا الولايات المتحدة ولا الغالب من دول العالم المناصرة للشعب السوري وهو ما أكسب معسكرهم قوة متجددة ونفوذًا كبيرًا يتأكد يومًا بعد يوم، فلا يستطيع أي محلل أن يقلل من قيمة زيارة بشار الأسد الأخيرة إلى موسكو، فحتى لو تمت تسميتها "استدعاء" فهو استدعاء من أجل ضمان إعادة شرعنة الأسد ونظامه على الأقل خلال مرحلة التغيير القادمة وهو ما سيضمن لروسيا أن تكون جزءًا من ذلك التغيير وأن لا يفاجئها أي شكل قادم لحكومة أو نظام حتى في حالة تنحية صديقها.
الانتصار الروسي تجلى في فرض هذه الرؤية على الأطراف المتشددة جميعًا، ولا أقصد هنا الولايات المتحدة التي لم تكن متشددة إلا على سبيل العبارات البلاغية في موضوع تنحية الأسد، بل أقصد بشكل أوضح المملكة السعودية التي تصالحت أخيرًا عبر تصريحات لوزير خارجيتها في برلين مع فكرة التسامح مع بقاء الأسد حتى تشكيل هيئة الحكم الانتقالي.
أما تركيا التي ظلت متصلبة لسنوات فقد بدأت تلين وبدأ مسئولوها يتحدثون عن فترة انتقالية قد تمتد لستة أشهر يكون فيها الأسد موجودًا لكن بلا صلاحيات.
نعود مرة أخرى لسؤالنا الرئيس: هل هناك ارتباك حقيقي يضاف إلى قائمة الارتباكات الأمريكية في العراق وأفغانستان وغيرها ويتعلق أكثر بالظروف الداخلية وشخصية الرئيس أوباما؟ أم أن كل ذلك هو مجرد خطة مقصودة مندرجة تحت بند خلق الفوضى التي ستخلق التغيير؟
الأيام كفيلة بأن تجيب إجابة شافية عن ذلك، لكن نظرة إلى الواقع الجيوسياسي يجعل سؤالًا أكثر أهمية يبرز إلى السطح وهو عن دور الارتباك العربي في زيادة الارتباك الأمريكي وتقوية الحلف الروسي الإيراني ولو بطريقة غير مباشرة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس