شعبان عبد الرحمن - عربي 21
تستعد تركيا لانتخابات برلمانية جديدة، ولا يختلف اثنان في أن الشعب التركي يعيش أزهى عصور حريته في اختيار حكامه، وتلك ثمرة كفاح طويل امتدت لثمانين عاما (1923م – 2003م) منذ فرض العلمانية الصارمة مرورا بأربع انقلابات عسكرية حتى انتخاب الشعب حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان لتشكيل الحكومة.
مسيرة طويلة ومريرة اكتظ طريقها بمئات الآلاف من الضحايا بين قتيل ومعدوم ومعتقل ومشرد، ولبدت أجواءها حالة من القهر والجبروت كابدها الشعب التركي، لكنه لم يستسلم ولم يفرط في هويته ولا حريته.. وها هو اليوم يجني الثمرة، ويقدم نموذجا في الحرية والممارسة الديمقراطية.
في هذه الأجواء يجدر بنا التوقف أمام تضحيات الشعب التركي تحت قهر الانقلابات العسكرية وصبره وتحمله حتي جني ثمرة تضحياته.
أعود إلى الوراء قليلا، ففي عام 1923م حين نجح مصطفي كمال في الانقلاب على الخلافة بمساعدة وتدبير تحالف دولي ماسوني. يومها أعلن مصطفى كمال قيام الجمهورية التركية.
وفي عام 1924م ألغى الخلافة الإسلامية وقام بنفي الخليفة وجميع أسرة آل عثمان خارج تركيا ومنع أفراد أسرة آل عثمان من دخول الأراضي التركية، أو مجرد المرور في مجالها الجوي كما حظر دفنهم في الأراضي التركية!
وقرر سلسلة مغلظة من المحظورات الكفيلة بقطع الشعب عن الإسلام نهائيا، فقام بحظر ما يلي:
- الحجاب
- التعليم الديني بما فيه تعليم القرآن
- بناء المساجد
- أعياد الفطر والأضحى وجعل يوم الأحد هو يوم العطلة الأسبوعية
- رحلات الحج والعمرة
- حظر رفع الأذان باللغة العربية
- ارتداء الملابس العربية
- غير الأبجدية التركية من أبجدية عربية إلى أبجدية لاتينية
- منع موظفي الدولة من إطلاق اللحية
وفي عام 1938م، رحل مصطفى كمال، لكن دفة الحكم ظلت في يد حزبه (حزب الشعب الجمهوري) وهو الحزب الوحيد في البلاد الذي ظل وفيا لمصطفى كمال، واستمر على نهجه.
لكن عدنان مندريس -المولود عام 1899م- حاول إعادة الأمور إلى نصابها، عندما قام في 7 ديسمبر من عام 1945م مع ثلاثة من أصدقائه "جلال بايار" و"فؤاد كوبرولي" و"رفيق كورالتان" الذين تم فصلهم معه من حزب الشعب الجمهوري بتأسيس "الحزب الديمقراطي" الذي شارك عام 1946م في الانتخابات العامة، وحصل على 62 مقعدا.
لكنه حصل على الأغلبية الساحقة في انتخابات عام 1950م، واضعا بذلك حدا لهيمنة حزب الشعب الجمهوري لأول مرة في تاريخه منذ عام 1923م، وشكل مندريس على إثر ذلك الحكومة.
كان مندريس قد خاض حملة حزبه الانتخابية ببرنامج وعد الشعب فيه بإلغاء الإجراءات العلمانية الصارمة التي اتخذها سلفيه أتاتورك، وإينونو، ضد كل ما له صلة بالإسلام، وحينما فاز مندريس أوفى بوعوده للشعب التركي:
- سمح بتعليم اللغة العربية
- قراءة القرآن الكريم وتدريسه في جميع المدارس حتى الثانوية.
- أنشأ (10 آلاف) مسجد ، وأعاد المساجد التي حولها نظام مصطفي كمال إلي مخازن للحبوب لتكون أماكن للعبادة مثلما كانت. وأعاد الأذان باللغة العربية.
- فتح (25 ألف) مدرسة لتحفيظ القرآن.
- أنشأ (22) معهدا في الأناضول لتخريج الوعاظ والخطباء وأساتذة الدين.
- سمح بإصدار المجلات والكتب التي تدعو إلى التمسك بالإسلام والسير على هديه.
- تقارب مندريس مع العرب ضد إسرائيل ، وطرد السفير الإسرائيلي سنة (1956م).
- فرض الرقابة على الأدوية والبضائع التي تصنع في إسرائيل.
وأسهمت إصلاحات مندريس في تراجع حدة التوتر الذي كانت سائدة بين السكان والدولة بسبب الإجراءات المناهضة للإسلام والمعادية لكل مظاهر التدين والعبادات.
لكن الجيش بات غاضبا من إصلاحاته تلك فقام في صباح 27 أيار/ مايو عام 1960 م بأول انقلاب عسكري خلال العهد الجمهوري بقيادة الجنرال جمال جورسيل وبمشاركة 38 جنرالا.
وحتى يستقر الوضع للانقلاب، شن جمال جورسيل ورفاقه حملة عزل واسعة داخل قيادات الجيش التركي أحال بمقتضاها 235 جنرالا وخمسة آلاف ضابط بينهم رئيس هيئة الأركان إلى التقاعد، وتم وقف نشاط الحزب الديمقراطي "حزب مندريس"، واعتقل رئيس الوزراء عدنان مندريس ورئيس الجمهورية جلال بايار مع عدد من الوزراء.
وبعد محاكمة صورية تم سجن رئيس الجمهورية مدى الحياة، فيما حكم بالإعدام على مندريس ووزيري خارجيته وماليته، وكانت التهمة هي اعتزامهم قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية.
ومؤخرا، روى الضابط "مظفر أركان" (72 عاما) الذي أشرف على إعدام عدنان مندريس ماجري يوم الإعدام، بعد صمت دام 54 عاما.
وبهذا الانقلاب، وضع جمال جورسيل تركيا في دوامة عنيفة من الانقلابات، فقد وقع الانقلاب العسكري الثاني في 12مارس عام 1971م، وعُرف باسم "انقلاب المذكرة"، نسبة إلى مذكرة الجيش التي حملت إنذارا لحكومة سليمان ديميريل المتصدعة بالانشقاقات، بعد اندلاع الاضطرابات والإضرابات العمالية والاغتيالات السياسية وموجة من التفجيرات على يد الجناح اليساري.
يومها، قرر العسكر ممارسة السلطة من وراء ستار، واختاروا في 19 مارس 1971م نهاد إريم لقيادة تلك الحكومة، لكنها فشلت فشلا ذريعا على مدى تسع سنوات حتى هوت بالبلاد إلى الحضيض.
وبدلا من أن يعود العسكر إلى رشدهم ويدركوا أن المخرج من تلك الكارثة هو إعادة حق الشعب في اختيار حكامه وممثليه، لكنهم أوغلوا في السطوة والسيطرة، فقاموا بانقلاب عسكري ثالث هو الأعنف والأكثر دموية في تاريخ تركيا، على يد الجنرال كنعان إيفرين في 12 سبتمبر عام 1980م .
ولم يعمل هذا الانقلاب على تقويض واستئصال المؤسسة السياسية كافة في تركيا فحسب، بل أسس لنظام قمعي صادر الحقوق والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير والصحافة، واعتقل أكثر من ستمائة ألف، وقتل المئات، وأعدم خمسمئة شخص دون سند أو مسوغ قانوني، وحظر العديد من الأحزاب السياسية.
بقي إيفرين رئيسا للجمهورية التركية حتى عام 1989، ولكن حتى بعد انتهاء ولايته، بقيت المؤسسات التي بناها، مثل مجلس الأمن القومي الذي يسيطر عليه العسكر، معقلا لقوة الجيش.
وغني عن البيان هنا، فقد توفي ايفرين عام 2015م عن عمر يناهز 89 عاما، وكان قد صدر بحقه حكم بالسجن مدى الحياه عام 2014م مع قائد القوات الجوية الأسبق "تحسين شاهين كايا" لدورهما في الانقلاب العسكري عام 1980، وذلك بتهمه "قلب النظام الدستوري".
وسيظل ذلك الحكم محفورا في تاريخ الشعب التركي، وشاهدا علي رفض الشعب التركي الدائم للانقلابات العسكرية، بل وعاقبها عقابا شديدا.
في عام 1997م، وقع الانقلاب العسكري الرابع، وهو ما سمي بـ"الانقلاب الأبيض" على حكومة الزعيم الإسلامي "نجم الدين أربكان"، مهندس الصحوة الإسلامية في تركيا الحديثة، ففي عام 1995 م وصل حزب الرفاه وحليفه الطريق القويم إلى السلطة ليصبح نجم الدين أربكان رئيسا للوزراء -أول رجل صاحب توجّه إسلامي صريح يصل إلى السلطة- وهو الأمر الذي أشعل غضب العلمانيين، ودفعهم إلى تحريك أذرعهم العسكرية ضد الحكومة المنتخبة.
فقد مارس الجنرال شفيق بير رئيس هيئة الأركان وتلميذ كنعان إيفرين ضغوطا شديدة على الحكومة مصحوبة بتهديدات، ما اضطرها إلى تقديم استقالتها.
في الوقت ذاته، عملت السلطة القضائية -الحليف الأهم للجيش- على ختم هذا التدخل العسكري بخاتم قانوني عبر إصدار حكم بإغلاق حزب الرفاه.
ورحلت حكومة نجم الدين أربكان عن الحكم، لكن أحلام الشعب التركي في حكومة مدنية تعيده إلى أحضان دينة بقيت حية ومتنامية ولم تقتلها أبدا تلك الحملة الضارية على مدي ثمانين عاما (1923م – 2003م) لسلخ تركيا من دينها الإسلامي وتذويب هويتها وقطعها عن محيطها العربي والإسلامي لم تحقق أهدافها بل ظل الشعب التركي قابضا على دينه، متمسكا بهويته، ومع كل انتخابات كان يجريها العسكر كان الشعب يوجه لهم صفعة مدوية تؤكد تمسكه بهويته ودينه ورفضه للانقلابات العسكرية.
بعد تلك السنوات، جاءت ساعة الحساب والعقاب، والمحاكمة لهؤلاء الجنرالات بل لظاهرة الانقلابات العسكرية بالحكم على كنعان ايفرين بالسجن مدى الحياة.. ونفذ الشعب خياره الإسلامي بانتخاب حزب العدالة والتنمية لحكم تركيا منذ 2003م حتى اليوم، وانتخب رئيس ومؤسس الحزب رجب طيب أردوغان رئيسا للجمهورية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس