محمد إلهامي - تركيا بوست
كنت مهتمّا في الأيام الماضية بمطالعة المصادر الغربية ورصدها للتجربة التركية، وقد قرأت أو طالعت حوالي عشرين دراسة أجنبية ما بين كتب أو تقارير مراكز بحثية وعدد لا أتذكره من المقالات، منها ما هو مترجم ومنها ما قرأته بالإنجليزية ومنها ما اهتممت أن أقرأه بالإنجليزية بعد قرائته مترجما لمزيد فهم ودقة. وقد كنت غنيا عن هذه الكلمات لولا أني أتخذها سببا ومدخلا لموضوع السطور القادمة الذي أرى أنه أهم موضوع تحتاجه الساحة الإسلامية!
على ما بين هذه الدراسات –وعامتها قد كُتِب قبل 2011، أي قبل اشتعال الثورات العربية- من خلافات في زاوية النظر والتوصيف والتوقعات المستقبلية، فإنها تتفق بشكل غريب على مسألة واحدة تطرحها دائما كسؤال ملح وحاضر، هو: هل تخلى حزب العدالة والتنمية عن أصوله وأفكاره الإسلامية؟ أم ما يزال يخفي هويته تحت غطاء سياسي نفعي (براجماتي) ويسعى بصبر لأسلمة تركيا أو إعادة الخلافة العثمانية؟!
القليل النادر من هذه الدراسات من اطمأن إلى أن سياسة العدالة والتنمية لا تمثل خطرا كبيرا، لكن أغلبها ظل على مكانه من الشك والترقب ومحاولة التفتيش في الخبايا والنوايا.
كيف ينظر الغرب لما يجري في تركيا
ورغم النقلة الهائلة التي أحدثها حزب العدالة والتنمية في تركيا لا تكاد الدراسات الغربية تركّز إلا على إجراءات بعينها، هي الإجراءات المتعلقة بالهوية الإسلامية، ولا تكاد تخلو واحدة من تحليل أغراض الحزب حين سعى لتمرير قوانين تضيّق على شرب الخمور أو تسمح بارتداء الحجاب أو تسوِّي بين خريجي مدارس الأئمة والخطباء مع خريجي التعليم العادي، لقد حظيت هذه القوانين الثلاثة –من بين آلاف مشروعات القوانين التي طرحها الحزب عبر 8 سنوات في الحكم- باهتمام خاص.
كذلك لا تخلو دراسة من المقارنة بين خطاب ولهجة أردوغان وغول وداود أوغلو مع لهجة أربكان السابقة، والدراسات الأكثر تفصيلا تهتم أيضا برصد تدرّج أربكان في إخفاء هويته الإسلامية وتدرجه في قبول العلمانية من لحظة (حزب النظام الوطني – 1970، وهي الأشد وضوحا وقوة) حتى لحظة (حزب السعادة – 2001، وهي الأخف وضوحا والأهدأ لهجة)، ورصد ما إذا كان أردوغان هو امتداد لأربكان بشكل أكثر خفاء أم هو بالفعل قد تغير واعتنق القيم الغربية أم هو نمط جديد يسعى لدولة على المقاييس الغربية ولكن بهوية ثقافية عثمانية؟
وترصد الدراسات بشكل خاص تطور مسألة الهوية لدى الشعب التركي من خلال الإحصائيات التي تسأل: هل ترى نفسك تركيّا أم مسلما بالدرجة الأولى؟ كيف ترى الآخرين: غير أتراك أم غير مسلمين؟ كيف تصنّف الناس في البيئة المحيطة بك: إخوة في الدين أم إخوة في الوطن؟ هل تريد دولة تطبق الشريعة الإسلامية؟ ما معنى الدولة الإسلامية من وجهة نظرك؟ هل ترى أن حزب العدالة والتنمية يسير بالبلاد إلى أن تكون دولة إسلامية؟ إذا أعلن حزب العدالة والتنمية أنه إسلامي ويسعى لتطبيق الشريعة فما موقفك منه؟ لماذا تؤيد حزب العدالة والتنمية: لأنه متدين أم لأنه ساهم في ارتفاع مستوى المعيشة؟.. وهكذا!
الإسلام في حياة الفرد التركي
وهم حريصون على محاولة فهم “ماذا يعني الإسلام في حياة المواطن التركي: وهل هو مجرد اختيارات شخصية كالحفاظ على الصلاة والامتناع عن شرب الخمر وارتداء الحجاب؟ أم أن للإسلام تأثير على سياسة الدولة ونظامها وعلاقاتها الداخلية والخارجية؟”، ومن أطرف ما حرصت هذه الإحصائيات على رصده استطلاع موقف غير المسلمين الأتراك، وهم لا يمثلون سوى 1% من الشعب، وانتهت الإحصائية إلى أنهم ورغم كون العسكر لم يفرّقوا في الاضطهاد بين أصحاب الأديان ورغم كونهم حظوا بفرص غير مسبوقة تحت ظل العدالة والتنمية إلا أنهم في النهاية يرون أن معيشتهم في ظل دولة علمانية أفضل منها في ظل دولة إسلامية.
وتعد مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مهمة في رصد الفارق بين سياسة أردوغان ونظريات أربكان، إذ كان الأخير يرفض الانضمام للاتحاد الأوروبي ويراه ناديا مسيحيا، بينما أردوغان رغم كل ما تبديه تركيا من تعنّت يظل حريصا على الانضمام. لكنهم يتفقون كذلك على أن هذا ربما يكون طريقته التي يستعمل فيها الغرب ليتمم إصلاحات ديمقراطية في تركيا يحجم بها نفوذ وسلطة العسكر، فيكون قد ضرب عصفورين بحجر: قضى على خصومه بيد الغرب وشروطهم الديمقراطية، ثم فضح الاتحاد الأوروبي وتعنّته في ضم دولة مسلمة إلى ناديه.
وعامة تلك الدراسات تنظر بحياد أو لا مبالاة إلى الانقلابات العسكرية المتتالية في تركيا، ولا تصفها بأنها جريمة أو تأخذ منها موقفا أخلاقيا، فإن لم تبرر لها تهاجمها، كأن الانقلاب العسكري إجراء سياسي طبيعي من حق الجيش أن يتخذه ضد النظام المنتخب.
والنادر جدا من اعترض عليها ورأى أنها مخاوف مبالغ فيها وأن الانقلاب على أربكان إنما كان لدوافع أيديولوجية إذ لم يكن بوسع أربكان أن يهدد النظام العلماني بعد شهور ولا بوسع الفتاة المحجبة أن تهدد النظام العلماني إذا دخلت الجامعة بحجابها.
الأقليات في تركيا
يحظى بالتركيز أيضا مسألة الأقليات، لا سيما الأقلية الكردية والأقلية العلوية، وهنا تظهر الضمائر والأخلاق فجأة فيتحدثون بلسان أخلاقي مبين عن جرائم الدولة وعن اضطهاد الأقليات وعن حقوقهم المهدورة. كذلك ثمة اهتمام خاص بالظهير الاقتصادي والاجتماعي للتيار الإسلامي، وعلام يعتمدون في الأموال وما هي المناطق التي تصوت لهم، وكيف بدأ نمو هذه الشركات الإسلامية “المال الأخضر” وأين تتركز أنشطتها؟ وكذلك كيف ظهرت هذه الطبقات والفئات الاجتماعية التي لم تنفذ العلمانية الكمالية إلى قلوبها وعقولها وظلّت تصوّت للإسلاميين، وكيف انتقلت من القرى لتظهر في العواصم والمدن الصناعية.
ومنذ ظهر في الأفق داود أوغلو كوزير للخارجية حتى لقي كتابه “العمق الاستراتيجي” موضع اهتمام خاص، فكتاب أوغلو صريح في أن موقع تركيا الجغرافي وثقلها التاريخي يفرضان عليها أن تكون دولة عظمى، وأنها فقدت هذه العظمة يوم أن تخلّت عن هويتها وتاريخها وأريد فرض ثقافة مخالفة عليها، وأنه لا بد من أن تعيد تركيا نشر مظلتها على ما انحسرت عنه من أراضي الدولة العثمانية وإن بشكل سياسي ثقافي اقتصادي اجتماعي، إذ إما أن تكون تركيا قوة عظمى وإما أن تكون جسرا يتلاعب بها وعليها الأقوياء.
والخلاصة النهائية أن الهوية هي المعركة الحاضرة الظاهرة، المعركة القائمة الدائمة، المعركة التي تدور حولها التحليلات والدراسات.. وأن العلمانية وأصحابها كذابون منافقون إذا حاولوا تصوير الأمر على أنه خلاف مادي حول برامج النهوض الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والعلاقات الخارجية، فكل هذه فروع عن أصل هو الهوية والرؤية الشاملة، فإذا اختلفت الرؤية والهوية اختلف كل هذا. والعلمانيون أنفسهم في مصر وتركيا يفضّلون النظام العلماني الفاسد الذي يقهر البلاد والعباد على نجاح نظام إسلامي وإن نهضت به البلاد وارتاح معه العباد. بل والغرب الذي يدّعي العلمانية هو نفسه الذي يفتش في كل تجربة عن مضمونها الكامن خلفها، ويسعى للبحث عن الإسلام الكامن خلفها، حتى وإن كان لسانه وظاهره لا يدل على هذا.
بين الحق والباطل
ما كان أغنانا عن هذا كله إلا لأن كثيرا ممن فينا تركوا كتاب الله والتمسوا كتاب الغرب يقرأون منه، ولو أنهم قرأوا كتاب الله لعلموا أن كل الصراع الدائر في هذه الدنيا والذي يهيمن على الأرض هو صراع الحق والباطل، صراع الإنسان عبد الله مع الشيطان ومن أضلّهم وأغواهم، صراع لا يقوم فيه شيء مقام العقيدة (الهوية)، لو قرأنا كتاب الله لعلمنا أن البشر ينقسمون بناء على عقائدهم، فهناك أولياء الرحمن وهناك أولياء الشيطان، الذين آمنوا والذين كفروا، وعلى هذه القسمة سيكون مصيرهم: فريق في الجنة وفريق في السعير.
ولعلنا إن لم نفقه هذا من كتاب ربنا أن نفقهه من كتاب الغرب الذي لم يقنع من تجربة تركيا بنهوض اقتصادي ولا بعلمانية ظاهرة بل أخذ يسلّط الأضواء والمجاهر ليستبين: هل خلف هذا إسلام مستتر يسعى بصبر للعودة من جديد، أم قد استطعنا بالفعل هزيمة الإسلاميين في تركيا وصاروا مثلنا قلبا وقالبا؟!!
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس