احسان الفقيه - خاص ترك برس
هنالك في الحرم، كان الأحباش منذ ما يزيد عن 14 قرنا من الزمان، يقفون في مواجهة بيت الله الحرام استعدادا لهدمه، فأرسل الله الطير الأبابيل، أفنت جيشهم.
وبعدها بحوالي تسعة قرون، وعلى وجه التحديد في القرن الـ 15 من الميلاد، عاد أعداء الحرم من جديد لاقتحامه، كانوا البرتغاليين هذه المرة، فأرسل الله لهم جنده من العثمانيين، فأوقفوا زحفهم، وحافظوا على بيت الله الحرام وصانوه عن تدنيس الغزاة، الذين أرادوا اقتحام الكعبة ونبش قبر نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولئن كان السلطان صلاح الدين الأيوبي أول من لقب بخادم الحرمين، وهو اللقب الذي أورده ابن شداد في كتابه النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، يريد به السلطان صلاح الدين، فإن السلطان العثماني سليم الأول قد لقب بـ "حامي حمى الحرمين الشريفين".
بعد الحملة البرتغالية التي استهدفت أرض الحرمين، اتجهت أنظار الدولة العثمانية إلى تلك البقاع لأهميتها الدينية، وتوافقت الرؤية العثمانية مع رغبة شريف مكة بركات بن محمد الحسيني في الدخول تحت الراية العثمانية، فتم تعيينه حاكما على مكة في ظل حكم العثمانيين.
واستقبل السلطان سليم الأول في أثناء وجوده في مصر، وفدا حجازيا برئاسة نجل شريف مكة، يحمل رسالة من والده يعلن فيها ولاءه للحكم العثماني طواعية، وأولى العثمانيون الحرم عناية فائقة، وحرصوا على الصبغة الاستقلالية لتلك البقاع، وكلفوا ولاة مصر بتحمل نفقات أهل الحجاز.
في الحرم المكي كان يقام حفل سنوي كبير بمعرفة شريف مكة، يُتلى فيه الفرمان العثماني لتجديد تسلم براءة منصبه كشريف مكة، ويعلن ولاءه للخلافة العثمانية وسلطانها، بحضور القاضي الذي يعينه السلطان العثماني في تلك البقاع، علما بأن الحجاز كانت تتبع مصر إداريا تحت راية الخلافة العثمانية.
أعفت الدولة العثمانية أهل الحجاز من الضرائب، وأسقطت عنهم واجب الخدمة العسكرية، واعتنى سلاطينها بالحج إلى بيت الله الحرم، وقاموا بتأمين طريق الحج، وتوفير سبل الراحة والأمان لحجاج بيت الله، وقاموا بإرسال الأموال إلى بلاد الحرمين تحت حراسة الحاميات العثمانية.
واهتم سلاطين الدولة العثمانية كذلك بإرسال الأموال إلى أشراف تلك البلاد وعلمائها والقائمين على خدمة الحرمين، بل تعدت تلك النفقة إلى القبائل التي تسكن بين الحرمين الشريفين، وكانت هناك قافلة الصرة ترسل من قبل السلاطين العثمانيين من العاصمة في الثاني عشر من رجب من كل عام إلى الأشراف والأعيان والفقراء ومجاوري مكة والمدينة، وهي عبارة عن هدايا مالية، فيها محصلة الأموال الموقوفة على الحرمين.
وبصفة عامة كانت الحجاز تدين بالولاء والانتماء للدولة العثمانية باعتبار السلطان العثماني رمزا إسلاميا تلتف حوله الدول الإسلامية، وفي الوقت نفسه تحتل أرض الحجاز مكانة رفيعة لدى سلاطين العثمانيين، لوجود المقدسات الإسلامية فيها.
*هؤلاء بنو عثمان، الذين عُرفوا بتقديس وتعظيم الحرم، وورث الأتراك عنهم ذلك التعظيم لبيت الله الحرام، لكنهم وجدوا اليوم من يتهمهم بتدنيس الحرم.. ويا للسخف..
وجدوا من يساويهم بأبرهة..
وجدوا من يساويهم بالقرامطة الذين اقتحموا الحرم وسرقوا الحجر الأسود.
* رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو كان يؤدي العمرة أثناء زيارته للسعودية، وبعض الأتراك قد وقفوا يهتفون لرئيس حكومتهم المحبوب، تمّ ذلك بشكل عابر، فهل يُعقل أنه قد تمّ الترتيب له؟ وبالطبع كردّ فعل طبيعي وقف داود أوغلو يشير إليهم بيده مُبتسما وهو بالأصل بشوش الوجه، فكيف لا يبتسم لمن أرسلوا اليه تحية طيبة في بيت الله الحرام.
* من حق أي مسلم أن يعترض على الواقعة، فلم تُجعل المساجد لهذا، نعم هذا حقه، ولكن أن يتم استغلال الموقف للطعن في رئيس حكومة وشعب معروفين بمحبتهم وتعظيمهم للحرم، ويُتّهموا بتدنيسه، فهذا أمر جلل.
* فور الحدث، انبرى بعض الناعقين من الإعلاميين ومن يقال عنهم نشطاء داخل السعودية (كما يدّعون) وما حولها من دول التآمر الدائم والفبركات المُستمرة، لاتهام داود أوغلو بتدنيس الحرم..
* داود أوغلو حامل القرآن، الذي لا يوقّع على قرار إلا بعد أن يتوضأ وضوءه للصلاة، كما قيل عنه من المُقرّبين، ممن نقلوا عنه هذا، ولم يقولوا قال لنا انه يفعل هذا.. داود أوغلو يُتّهم بأنه شارك بتدنيس الحرم؟!
* المُثير للسخرية، إعلامي مصري سبق وأن قال إن معتصمي ميدان رابعة كانوا يُخبّئون كرة أرضية تحت المنصة، هو ذاته الذي أقام الدنيا لأن اللاعب محمد أبو تريكة أوصى بأن يُدفن معه في قبره القميص الذي كشف عنه بعد إحرازه هدفا في إحدى مبارياته ودوّن عليه "تعاطفا مع غزة"، وهو نفسه الذي علّق على ما حدث في الحرم من الأتراك، بقوله إن داود أوغلو مصاب بجنون العظمة، وكأنه أعطى أوامره لكي يهتف له الأتراك في الحرم..!!
* خليجيون ممن حرقت أكبادهم الخطوات الأولى للتحالف الميمون بين السعودية وتركيا، اصطادوا في الماء العكر، واستغلوا الحدث لتشويه صورة الأتراك وزعمائهم، وتعبئة الرأي العام السعودي ضد تركيا، لكنهم جهلوا أن عموم الشعب السعودي الواعي من الشرفاء، يدركون أهمية هذا التحالف خاصة في هذا التوقيت، ويوقنون بأن هذه الطنطنة لن تؤثر على العلاقات بين الجانبين.
* الذين قرعوا الطبول بعد هذا المشهد لم نسمع لهم أصواتا عندما كان الروافض الإيرانيون يثيرون الشغب في الحرم، ولم يرفضوا (السيلفي) مع فنانات التقط لهنّ جمهورهنّ صورا وهُنّ مبتسمات ملوّحات وحولهنّ جمهورا مُتمايلا من الذكور ما بين الصفا والمروة، لكنها فوبيا الإخوان التي أصابت كثيرا من الناس بالحماقة، فكل من كان من الإخوان، أو على صلة بالإخوان، أو فتح لهم بيته وآواهم، او رفض التلفيق والتشويه ضدّهم، كل هؤلاء يستحقون قرع الطبول والتشغيب عليهم والتُّهمة جاهزة (أنت أخواني من عبيد المرشد).
* وإني لأتساءل:
هل تعوّدتم من الأتراك على مثل هذا المشهد العابر داخل الحرم كحال الإيرانيين؟
هل يُعقل أن يقوم داود أوغلو بزيارة هامة للسعودية كخطوة هامة على طريق التقارب في الوقت الحرج ثم يعمد إلى إثارة غضب السعوديين؟
هل من الإنصاف والعدل أن يتم نسف فضائل الرجل وشعبه للفتة محبة توجه بها بعض الأتراك لزعيمهم جاءت بصورة غير لائقة؟ ألا يكفي استنكار الأمر فحسب؟
هل كان بوسع الرجل أن يتجاهل الإشارة إلى شعبه الذي يحييه؟ هل أجرم بتلويحه بيده إلى أبناء بلده الطيبين؟
* وكما قلت آنفا، لست أنتقد من يستنكر الأمر ويرفضه، إنما حديثي موجه ضد من يقوم بتضخيم هذا الحدث العابر، بل ويُركّب صوت هُتافٍ في ملعب كرويّ على مشهد التحية العفوية والتلويحة التي لم تُراعي حُفرا في نفوس بعض أسوأ من عرفهم جيلنا هذا، حديثي موجّه لمن استغل ما حدث لتشويه حكومة العدالة والتنمية وشعبها لأغراض سياسية، فالحرم له إدارته، وله علماؤه، الذين يُحددون ما إذا كان الحدث يُعدّ تدنيسا للحرم أم لا.
حفظ الله بلاد الحرمين وأهلها والقائمين على حمايتها وخدمة ضيوفها، وحفظ الله شرفاء أمّتي وسائر بلاد المسلمين..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس