محمد زاهد جول - القدس العربي 

هذه هي خلاصة الانقلاب الفاشل الذي وقع في تركيا يوم الجمعة 15/7/2016، وهو الخامس الذي تنفذه القوة العسكرية، ولا أقول الجيش ولا المؤسسة العسكرية والأمنية كما هو المعتاد في الانقلابات الثلاثة الأولى، الانقلاب الأول 1960 والثاني 1971 والانقلاب الثالث 1980 وكذلك الانقلاب الحداثي الرابع 1997 فإرادة الشعب كانت دائما أقوى من سلاح الانقلابيين، ولذلك كان مستغربا أن يقع انقلاب عسكري في تركيا بعد فشل الانقلابات الأربعة السابقة في تحقيق أهدافها. فالانقلاب الأول بحجة حماية العلمانية لم يرجع البلاد والشعب إلى ما كان عليه الحال قبله، بل اضطر العسكر والحكومات التالية إلى تقديم تنازلات أكبر في التحرر من العلمانية المتصلبة الخانقة للحرية الشخصية، وكذلك الحال مع انقلاب 1971 فقد عادت القوى السياسية السابقة للعمل السياسي بما فيها الحركة الإســلامية بقادة نجم الدين أربكان.

والانقلاب الأشد في تاريخ الجمهورية التركية قبل انقلاب تموز/يوليو الحالي كان انقلاب 1980 وعلى إثره وضع العسكر دستور 1982 ليتمكنوا من التحكم في الحياة السياسية، وتم خلط الدستور النيابي بالرئاسي في صلاحيات السلطة التنفيذية، ليتدخل رئيس الجمهورية والعسكري الجنرال كنعان إيفرين في صلاحيات رئيس الوزراء المنتخب، وهو ما أحدث مشاكل في النظام السياسي حتى الآن، حول صلاحيات الرئيس، ومن يحكم تركيا رئيس الجمهورية أم رئيس الوزراء، وهو ما تعمل الحكومة الآن لمعالجته، ووضع دستور جديد يؤسس لنظام رئاسي بالكامل مشابه للدستور الأمريكي.

لقد استغرب الرئيس أردوغان وقوع الانقلاب العسكري أول ما سمع به وهو في الفندق في مدينة مرمريس، ولذلك فإن تفكير الرئاسة ورئاسة الحكومة والبرلمان والمؤسسة العسكرية والأحزاب في السلطة والمعارضة، التي عارضت جميعها الانقلاب ورفضت تقويض الديمقراطية، فإنها جميعها تفكر الآن وتعمل لمنع تكرار ما وقع ما أمكن. فإن كنا نقول من قبل إن تركيا ودعت الانقلابات العسكرية إلى غير رجعة بعد تحديد وظيفة الجيش في حماية الحدود الخارجية، وعدم التدخل في الحياة السياسية الداخلية بالتعديلات الدستورية التي أقرت عام 2010 فإن هذا الانقلاب وإن لم يكسر هذه القاعدة، لأنه لم يكن عسكريا متكامل الأوصاف، إلا أنه سمح لتنظيم عسكري متمرد من الجيش أن يحاول الانقلاب، وان تم بتخطيط تنظيم جماعة فتح الله غولن، التي تخضع لعقل مدبر أكبر قد يكون موجوداً في بنسلفانيا أو قريبا منها.

وسواء تم توصيف ما جرى باعتباره انقلابا عسكريا أو تمرداً على المؤسسة العسكرية، فقد فشل في السيطرة على القرار العسكري أولاً، بفشله في السيطرة على قيادة هيئة الأركان العسكرية، واضطراره إلى اعتقال رئيس هيئة الأركان خلوصي آكار بعد رفضه الخضوع لهم مهما كانت التهديدات، وهذا أفشل الانقلابيين في السيطرة على القرار السياسي في البلاد، لأنهم لم يستطيعوا أن يعتقلوا وزيرا واحدا، فضلا عن اعتقال رئيس الحكومة بن علي يلدرم أو اعتقال رئيس الجمهورية أردوغان أو اغتياله، وكذلك رفض الشعب قرار منع التجول الذي أصدره الانقلابيون في الساعة الأولى، وخرج الشعب إلى الشوارع ملبيا نداء أردوغان لمحاربة الانقلابيين، لذا فإن كل الجهود التي تبذلها الدولة التركية الآن بكل مؤسساتها هي التحقيق فيما حصل أولاً، ومعرفة الثغرات التي دخل منها الانقلابيون ثانياً، واتخاذ التدابير التي تعالج القصور السابق ثالثاً، سواء كان قصوراً في جهاز المخابرات، الذي لم يكشف الانقلاب قبل وقوعه إلا بساعات، بينما كانت ترتيبات الانقلاب تجري منذ ثلاثة أشهر بحسب بعض التقديرات، أو بمعالجة الخلل داخل المؤسسة العسكرية نفسها، فكيف يستطيع فصيل متمرد من الجيش تحريك طائرات ف16 ليضرب بها مقار الدولة والبرلمان وغيرها؟

إن الخطوة الكبرى التي أقدم عليها مجلس الأمن القومي برفع مقترح الرئيس أردوغان إلى الحكومة بفرض حالة الطوارئ يوم 20 الحالي هو حق دستوري لرئيس الجمهورية أولاً، وقد أقرت الحكومة هذا القرار بعد ذلك ثانياً، ثم طلبت موافقة البرلمان عليه، وهو ما تم الساعة الواحدة ظهرا من يوم الخميس 21 تموز/يوليو بفرض حالة الطوارئ لمدة تسعين يوما، ثالثاً، ومع ذلك يمكن اعتبار فرض الطوارئ في هذا التاريخ تجاوزا للمألوف في الحياة السياسية منذ عام 1987. فقد كانت المرة الأولى التي فرضت فيها حالة الطوارئ بتاريخ 28/4/1960 ولغاية 1963 بعد أول انقلاب، والثانية 13/3/1971 ـ 26/9/1973، والحالة الثالثة 8/1974 ـ 9/ 1975 بسبب الحرب التركية في قبرص، وجاءت الحالة الرابعة 29/9/1980 ـ 16/7/1987، وبعدها بقيت حالة الطوارئ في جنوب شرق البلاد فقط، بسبب الأعمال الإرهابية لحزب العمال الكردستاني، وأخيرا جاء فرض حالة الطوارئ بتاريخ 20/7/2016، بعد الانقلاب الفاشل.

فهذا القرار فرضته الظروف الراهنة والعصيبة قبل أن يكون قرار الحكومة والبرلمان، فالشعب يملأ الشوارع والساحات منذ ليلة الانقلاب وحتى الآن، وله مطالبه بالقصاص من القتلة، والحكومة اضطرت إليه لمبرر واحد كما قال وزير العدل بكر بوزداغ أمام البرلمان هو لمنع وقوع انقلاب آخر بعد هذا، وهذا القرار الذي أوصى به الرئيس بحسب الدستور في المادة 120 الفقرة الثانية منه، يجعل الجيش والقوات المسلحة تحت حكم الحكومة، فأحكام الطوارئ تجعل حكم البلاد من قبل الحكومة، التي تعطي صلاحياتها إلى حكام الولايات لإتخاذ ما يرونه ضروريا، وسيقوم الولاة بفتح تحقيقات رفيعة لإقصاء كل من تثبت صلته بحركة غولن في الجيش والشرطة والأمن، بينما مهمة الحكومة المركزية الأساسية ستكون إعادة هيكلة القوات المسلحة، كما قال رئيس الجمهورية، وضخ دماء جديدة فيها، بمعنى ان لا تبقى عناصر القوات المسلحة من تيار واحد أو قابلة لأن يتم التسلل فيها من عناصر غريبة مرة أخرى، وبالأخص من تنظيم فتح الله غولن، الذي أصبح منذ محاولتي الانقلاب الفاشل عام 2013 تنظيما إرهابيا، وقد تأكد عليها هذا الــوصــف بانقلاب 15 تموز/يوليو.

لا شك أن القوات المسلحة ستكون بعد هذا الانقلاب غيرها قبله، فلن تعود حصنا مغلقا على رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة، ولا حصنا لا يملك رئيس الوزراء المدني ولا رئيس الجمهورية المنتخب مباشرة من الشعب التدخل في شؤونها، ولا يعرفون شيئا عن خباياها وأسرارها، بل لن تبقى الحكومة بعد اليوم تتوجس خيفة من الجيش أن ينقض عليها، فالمؤتمر الصحافي الأول الذي عقده رئيس الجمهورية أردوغان مساء الخميس الماضي جلس على يمينه رئيس الوزراء بن علي يلدرم، وعلى يساره رئيس هيئة الأركان بالوكالة أوميت دوندار، وفي ذلك إشارة إلى تعاون السلطات الثلاث التي سوف تحكم تركيا في الأشهر الثلاثة المقبلة، مؤسسة رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ومؤسسة الجيش والقوات المسلحة، ومهمتها الأساسية معالجة ثغرات المرحلة السابقة، وبناء أسس مرحلة جديدة لتركيا الجديدة.

إن تمرير البرلمان لقرار رئاسة الوزراء بفرض أحكام الطوارئ وليس الأحكام العرفية مهم جداً، لأن الدولة تريد ان تسير شؤون البلاد كافة دون تغيير ولا تأخير ولا تأثير، والفرصة الوحيدة التي تمنحها حالة فرض الطوارئ في البلاد هي تعقب الضالعين بالانقلاب بطرق أيسر من السابق، بحيث تصبح مباشرة من المحافظين أو الولاة ومن يولونهم هذه المهمات دون العودة إلى طلب إذن من المدعين العامين، الذين نال قسم كبير منهم الاعتقال، إما لتورطهم بالانقلاب، أو لتورط أسمائهم في قوائم الانقلابيين لإدارة البلاد بعد نجاح الانقلاب، حيث ان تنظيم فتح الله غولن تعمد ان يزج بعنصره في قطاع وزارة العدل والجيش والشرطة والمال والإعلام والتربية في الدرجة الأولى وبصورة سرية، ولولا فضائح حزيران/يونيو وكانون الأول/ديسمبر 2013 لبقي معظم هؤلاء غير معروفين، ولكن فضائح 2013 وضعتهم تحت المجهر والمراقبة، وبالأخص من جهاز المخابرات، حيث أن تنظيم فتح الله غولن كان قد استهدف رئيس الجهاز هاكان فيدان بالعداء في تلك الأحداث.

لقد أقر البرلمان فرض حالة الطوارئ بتصويت 346 صوتا من بين 461 حضروا الجسلة، ورفض 115، وبذلك أعلن رئيس البرلمان إقرار حالة الطوارئ من قبل البرلمان، وبالإشارة إلى ان أعضاء حزب العدالة والتنمية هم 317 نائبا، فإن الأصوات الباقية جاءت من نواب حزب الحركة القومية، بينما امتنع نواب حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي عن التصويت مدعين أن حالة البلاد لا تستدعي ذلك، ويمكن إدارتها من قبل البرلمان، وهذا أول مؤشر ظاهر على رغبة حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي في الابتعاد في مواقفهما عن موقف الحكومة في ظل أحكام الطوارئ.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس