د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
العلاقات التّركية التّونسية علاقات ضاربة في أعماق التّاريخ، وممتدة في واقعنا اليوم. فقد أُلحقت تونس بالدولة العثمانية عام 1574م على يد القائد سنان باشا، وظلّت ولاية عثمانية إلى حدود عام 1881م تاريخ الاستيلاء الفرنسي على البلاد التونسية. ويمكن القول إنّ الكثير، إذا لم نقل إنّ أغلب التّونسيين لا يعرفون إلا النّزر القليل من المعلومات عن الوُجود التّونسي في تركيا، وعن دور التّونسيين في الحركة العلميّة والدّعوية والنضالية مع إخوانهم الأتراك ضدّ القوى الاستعماريّة في أحقاب مختلفة.
"قرية التوانسة" تقف اليوم شاهدا حيّا على عمق هذه العلاقات وعلى الدّور الكبير والفعال الذي قام به التّونسيون أثناء الحرب العثمانيّة الرّوسية المعروفة بحرب القِرِمْ سنة 1854م. فما هي هذه القرية؟ ولماذا سمّيت بهذا الاسم؟ وما هي قصتها؟
توجد قرية التّوانسة، أو (Tunuslular köyü) حسب ما تنطق تُنطق باللّغة التّركية في ولاية قَسْطَمُوني في شمال وسط تركيا الواقعة على سواحل البحر الأسود. وتبعد عن مركز الولاية مسافة 59 كلم. ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 1150 م. ويسكن بها نحو 50 شخصًا حسب إحصائية صادرة في عام 2012م.
وسكّان هذه القرية هم من بين التّونسيين الذين شاركوا في حرب القرم، وهي الحرب التي اندلعت بين روسيا والسّلطنة العثمانية بتاريخ 28 مارس عام 1853 م، واستمرت حتى 1856 م. ودخلت بريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدّولة العثمانية في 1854 م التي كان قد أصابها الضّعف، ثم لحقتها مملكة سردينيا التي أصبحت فيما بعد (1861م) مملكة إيطاليا. والسّبب الرئيس في إشعالها هي الأطماع الإقليمية لرُوسيا على حساب الدّولة العثمانية، وخاصة في شبه جزيرة القِرِم التي كانت مسرحًا للمعارك والمواجهات. وانتهت الحرب في 30 مارس 1856 م بتوقيع اتفاقية باريس, وهزيمة الرّوس هزيمة فادحة.
كانت تونس قد ساهمت في الحرب بنحو 20 ألف جندي يقودهم الجنرال رشيد، كما ساهم أهالي تونس بأموال تمّ جمعها من التبرّعات إحساسًا منهم بأهمية هذه الحرب التي تستهدف المسلمين وأراضيهم والقضاء على دولتهم. وشارك إلى جانب التّونسيين متطوعون من طرابلس الغرب (ليبيا) ومن المغرب الأقصى، ومن مصر ومن الجزيرة العربية و الشّام، ومن مناطق مختلفة من الدّولة. ومن أبز العلماء التونسيين الذين ساهموا بالكلمة وبالكتابة في التّحريض ضدّ الرّوس في هذه الحرب العالم التّونسي محمد المثنّى، وكتب في ذلك عدة رسائل.
وقد سَقط في الحرب من الجانب العثماني نحو 400 ألف ما بين قتيل وجريح. واستشهد من الجنود التّونسيين عدد كبير، ومن نجا منهم رجع قسم منهم إلى تونس، وقسم آخر فضّل البقاء فمنحهم السّلطان العثماني قطعة أرض في ولاية قسطموني ليسكنوا فيها، فسميت القرية باسمهم، وهي إلى اليوم بهذا الاسم. وما يزال التونسيّون القاطنون في هذه القرية يُحافظون على العادات التّونسية في المأكل والملبس، وسيمَا وُجوههم تتحدّث عن هويّتهم العربيّة التّونسية. ومن بين القادة التونسيّين قائد يسمّى محمد التّونسي، استشهد أثناء الحرب ودُفن في هذا المكان. والنّاس في هذه القرية يعرفونه باسم محمّد التونسي. وبالقرب من هذه القرية تم في عام 2003 إنشاء شِشْمة (سبيل) الصّداقة التّونسية التّركية" بحضور عدد كبير من التّونسيين والأتراك.
هذا نموذج واحد من بين عشرات النّماذج والشواهد على صلابة الرّوابط بين الشّعبين التّونسي والتّركي. ويمكننا أن نذكر مثل هذا في المجالات السياسية والعلمية والتجارية وغيرها. فللتّونسي حضور كبير في الذاكرة التّركية القديمة والمعاصرة. فعندما أسس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية الحديثة تأثّر به بورقيبة واعتبره الأب الرّوحي، وسار على طريقه في كثير من الإصلاحات التي أنجزها بعد الاستقلال.
ويبدو أنّ التجربة التركيّة في الحرية والدّيمقراطية اليوم لقيت لها صدى قويًّا في تونس، وهي تمثل نموذجًا ناجحًا في نظر التّونسيين يمكن الاقتداء به والسّير في طريقه مع مراعاة الخصوصيّة التونسية. والأكيد أن التحولات الكبرى التي تشهدها تونس اليوم من خلال الانتقال من نظام الاستبداد إلى ترسيخ النظام الديمقراطيّ قد تأثرت بشكل أو بآخر بالتجربة التّركية في هذا المجال، وجنّب البلاد كثيرًا من المزالق والمخاطر التي وقعت فيها تجارب عربيّة أخرى.
لكن ما يُؤسف له أنّ هناك بعض الأطراف السياسيّة، وخصوصًا المحسوبة على اليسار والقوميين في تونس، تزعم بأنّ تركيا تتدخّل بشكل أو بآخر في الشؤون الدّاخلية للبلاد، لا لشيء إلا لأن تركيا وقفت بقوة مع الثّورة التّونسية وساندتها، وساندت التحول الديمقراطي في البلاد. وقد سعت هذه الأطراف في أكثر مناسبة إلى تخريب هذه العلاقات المتميّزة من أجل تحقيق أهداف سياسيّة وخدمة توجهات إيديولوجية ضيّقة، لكنّ هذه المحاولات باءت بالفشل لأنّ هذه العلاقات أصلب وأشدّ من أن تنال منها دعوات من هنا أو من هناك.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس