دينا رمضان - خاص ترك برس

لم يخطر ببال أحد ممن خرجوا في ثورة الكرامة السورية منذ ما يقارب السنوات الست أن تؤول الأحوال إلى ما آلت اليه اليوم، كانت توقعاتهم أن بقاء النظام لن يستمر لأكثر من أشهر معدودة، فالثورة ثورة حق، والحق لا بد أن ينتصر!

لم يتوقع أحد أن يعاني الشعب السوري كل أنواع العذاب من تهجير وتشريد، حصار وتجويع، تعذيب وقتل، وكل هذا يحصل أمام أعين العالم "المتحضر" وسمعه!

لم يفكر أحد من الثوار أنه سيضطر إلى رفع السلاح، أو أن يقاتل على الجبهات، أو يتعلم فنون القتال وأنواع الاسلحة!

ولكن، ومع الخيار العسكري القمعي للأسد ونظامه المجرم، والصمت المطبق للعالم أجمع؛ لم يبق للثوار إلا خيار العسكرة ليتخذوه، دفاعا عن أنفسهم وأعراضهم وثورتهم..

وما زاد الطين بلة استجلاب النظام للاحتلال الخارجي لسوريا حفاظا على كرسيه، ابتداء بحزب الله، ومرورا بالميليشيات العراقية والأفغانية، والقوات الإيرانية، وانتهاءً باستدعاء الدب الروسي، الذي اعتبر أن الكرم كرمه، وأخذ يتصرف على هذا الأساس، وهو أمر غير مستغرب لكل مطلع على التاريخ وعبره.

وأمام كل هذا، غض معظم من ادعوا صداقة الشعب السوري الطرف عما يحصل، ولم يظهر منهم إلا الدعم الخجول، والتصريحات الرنانة من هنا وهناك، ملتزمين بالسقف الذي وضعته أمريكا لهم.

ومع هذا الخذلان من الأصدقاء قبل الأعداء، انتهت آمال الكثيرين بالثورة وتحولوا عنها، وحتى تستريح ضمائرهم سموها بالحرب الأهلية، حيث الاختلاط التام بين الحق والباطل.

وبالرغم من ضعف الدعم، وانعدامه أحيانا؛ قاومت الفصائل والكتائب النظام على الأرض، صحيح أن منها من سعى وراء المصالح الشخصية، ولكن الأكثرية كانت من الشباب الذين أخذوا على عاتقهم حماية سورية وشعبها من بطش هذا النظام وأعوانه، ونصرة ثورة الحق، ثورة الكرامة.

لقد أرَقت تلك الفصائل والكتائب المتعددة النظام وحلفاءه، فقد أنزلت بهم صنوف الخسائر، على الرغم من بدائية أدواتها القتالية وافتقادها للأسلحة النوعية، وكانت المعارك في كثير من الأحيان تتراوح بين الكر والفر، حيث لم يترك النظام وحلفاؤه طريقة إلا اتبعوها للقضاء على تلك القوى العسكرية، ابتداء بالحرب المعنوية باستخدام الجيش الإلكتروني من خلال نسج الشائعات المحكمة ونشرها مستهدفة الوصول إلى تخوين تلك الفصائل وإضعاف الثقة بها، إلى المغريات المادية والمعنوية المقدمة لتلك الفصائل للتراجع والانسحاب وتسليم الجبهات، إلى الهدن والتفرقة وزرع العملاء... ولكنها مع كل هذا لم تنجح في هزيمتهم.

وفي نفس الوقت لا يمكن إنكار أن تلك الفصائل نفسها أرقت الثوار ومناصري الثورة أيضا، فتفرق تلك الفصائل وممارسات بعض الكتائب، وانقيادها لرغبات الداعمين وغرفهم الاستخبارية، بالإضافة إلى اقتتالها الداخلي، وخطابها المتطرف؛ كل ذلك أدى إلى إخافة الناس وابتعادهم عنها، فهم لم يثوروا لاستبدل طاغية علماني بطاغية "متأسلم".

ومع هذا وذاك فلا يمكن لأحد أن ينكر أن الاتفاق الذي تم بين تلك الفصائل والنظام، ومن ورائه حلفاؤه وأعوانه، هو نصر حقيقي، نصر يستحق الفرح، كيف لا وقد أجبرت تلك الفصائل "المتفرقة" النظام الأسدي أن يعترف بها، ذلك النظام المدعوم بأحد قطبي القوة في العالم بأسره، يوقع اتفاق هدنة، يتساوى فيها الطرفان من حيث الحقوق والواجبات، مع قوى ما فتئ يدعي أنها مجرد جماعات إرهابية!  ليس ذلك وحسب؛ وإنما تجبره تلك القوى على الخضوع لشروطها في أن تشمل الهدنة كل المناطق، وكل الفصائل، بعد أن أراد -بمكره المعهود- استثناء الغوطة الشرقية لينفذ سياسته المنحطة في التهجير والتغيير الديمغرافي للمناطق السورية، واستثناء فتح الشام ليؤجج الفتن بين الفصائل، ويترك الباب مفتوحا للاقتتال بينها.

نعم هو انتصار بكل ما تحمله الكلمة من معاني، وهو انتصار خفف عنا جميعا ثقل الأيام الأخيرة التي عشناها بسبب ما حدث في حلب، وحُق لجميع السوريين أن يفرحوا به، فربما يكون بداية النهاية لمآسيهم!

ولا بد هنا من شكر تركيا على سعيها الدؤوب لإيقاف سيل الدماء في سورية منذ بداية هذه الثورة، ووقوفها الأبلج مع الحق دون أن تخشى فيه لومة لائم. ورغم المخاوف التي انتابت الكثير من السوريين في الفترة الاخيرة لاعتقادهم بتغير سياساتها تجاه القضية السورية؛ إلا أنها أثبتت براعة كبيرة في التنقل بين الحلفاء بما يتناسب مع مصالحها الداخلية أولا (وهو حق أصيل لا تلام عليه) وبما يضمن إيقاف مآسي الشعب السوري من جهة أخرى، و الشكر الحقيقي لها لن يتحقق إلا بإظهار احترام الفصائل لتعهداتهم واحترامهم للهدنة الموقعة، التي كانت هي الضامن لها.

إن توقيع الهدنة يمثل خطوة أولى مباركة يجب أن تكتمل بعدد من الخطوات الهامة، فقد باتت الفرصة الآن سانحة للتحرك على عدد من الأصعدة:

فعلى الصعيد المدني، المتمثل بالحراك السلمي والعمل الانساني، فالبدء الفوري بعمل إنساني منسق على الأرض يظهر الوجه المدني المضيء للثورة، ويعيد إيمان الناس بها، من خلال رفع المعاناة عنهم، والإحساس بحاجاتهم ومتطلباتهم اليومية، وإشراكهم ببناء بلدهم بات متاحا وعاجلا، ويمكن هنا اللجوء إلى تقوية المجالس المحلية وتنظيم عملها لتكون نواة هذا البناء، أما الحراك الثوري السلمي متمثلا بالتظاهر السلمي هو أمر ضروري  في كل مناطق سورية، وذلك للتأكيد على سلمية الثورة وأحقية مطالبها، وإثبات أن ما أجبرها على العسكرة هو همجية النظام وإجرامه.

وعلى الصعيد العسكري فهي فرصة للفصائل لإعادة ترتيب أوراقها، ومراجعاتها النقدية لأدائها في الفترة السابقة، وبالأخص نوعية خطابها وممارساتها، بالإضافة إلى تحديد استراتيجياتها وتنسيق الخطط وترتيب الصفوف.

وأخيرا، وعلى الصعيد السياسي، فإن المفاوضات السياسية قادمة لا محالة، مما يستلزم التنسيق الحقيقي بين صفوف المعارضة المختلفة؛ لتوحيد الرؤى والتحضير لمفاوضات وطنية، تُراعى فيها توازنات القوى الحقيقية، وتُوضع فيها مصلحة سورية وشعبها أولا، مما يعني الترفع عن المصالح الشخصية، والارتهانات للقوى الدولية، وعلى الرغم من التكهن بصعوبة تلك المفاوضات ودهاليزها، إلا أن الأمل قائم بأن تشكل الخلاص للشعب السوري من الويلات التي عانها خلال السنوات الماضية.

عن الكاتب

دينا رمضان

باحثة وناشطة مختصة بالشأن السوري، حاصلة على شهادة EMBA (ماجستير تنفيذي في ادارة الاعمال، PMP الشهادة الامريكية في ادارة المشاريع، دارسة للعلوم السياسية (معهد سياسي) و مدير تنفيذي سابق في احد المنظمات الانسانية المختصة بالشأن السوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس