محمد زاهد جول - الخليج اونلاين
كان عام 2016 من أكثر الأعوام التي شهدت أعمالاً إرهابية ضخمة في تركيا، قدّرها البعض بنحو سبع عشرة عملية إرهابية كبيرة قتلت وجرحت المئات. وفي الساعة الأولى من عام 2017 ومن فجر اليوم الأول، يضرب تركيا عمل إرهابي كبير ومفجع أوقع 39 قتيلاً منهم الأتراك والسياح الأجانب، ولذلك نظر له البعض بأنه مفاجئ في طريقته ومكانه والجهات المستهدفة فيه.
وقوع عدد كبير من الضيوف الأجانب كان عملاً مقصوداً ومخططاً له، بدليل عدد القتلى الأجانب الكبير، وبدليل أن العمل الإرهابي استهدف مكاناً سياحياً عالمياً، وكأن الرسالة الكبرى التي يريد الإرهابيون إرسالها إلى العالم هي أن المرافق السياحية في تركيا لم تعد آمنة، ومن ثم إثارة الفوضى في تركيا وإثبات التحدي لأجهزة الأمن التركية، والنتيجة محاولة نزع الاستقرار الأمني والسياسي في تركيا.
فالعملية الإرهابية حلقة في سلسلة من الأعمال الإرهابية، وهذا يعني أن هناك أطرافاً محلية وإقليمية ودولية تشترك في استهداف الأمن والاستقرار في تركيا، بغض النظر عن الجهة التي سوف تتبنى هذه العملية الإرهابية، سواء كانت تنظيم داعش أو حزب العمال الكردستاني، أو منظمة إرهابية متخصصة ومتدربة تدريباً عسكرياً لتنفيذ مثل هذه العمليات الإرهابية، تستثمره الأطماع الدولية لمحاربة تركيا، فهو في النهاية جزء من مشاريع الاستهداف الخارجية، وتابع لعصابات الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو/تموز 2016، وما مقتل السفير الروسي لدى تركيا عن ذلك ببعيد.
لا شك في أن توقيت الحدث وتنفيذه كانا عملاً استخباراتياً كبيراً ، وأنهما هدفا إلى ضجة إعلامية كبيرة بحيث تلفت أنظار كل دول العالم وشعوبه، فاستهداف ملهى ليلي في منطقة سياحية راقية بإسطنبول وفيها جنسيات كثيرة، يؤكد أن المخطط كان يقصد هذه الضجة الإعلامية والاختراق الأمني، وعلى الرغم من أن هذا الإرهاب تعانيه العواصم والمدن في المنطقة أولاً، وفي أوروبا ثانياً، وأن عواصم الدول الأوروبية شهدت حالة من المخاوف الأمنية، ولكن الإرهاب ضرب إسطنبول فقط، وكأن الإرهابيين قد وضعوا تركيا على رأس سلم أولوياتهم الإرهابية! وهو ما يفرض سؤالاً كبيراً مرة أخرى: لماذا تُستهدف تركيا في موقع سياحي؟ ويفرض السؤال الأهم: من يستهدف تركيا؟ فليس المقصود الشخص المنفذ للعملية الإرهابية؛ لأن شخصاً أو منظمة إرهابية ليس في مستوى استهداف تركيا وحدها.
إن المعلومات الأمنية المتوافرة حتى الآن تقول بأن مطلق النار شخص واحد ومدرَّب جيداً؛ بل محترف وبمستوى قوات خاصة من الكوماندوز، فقد أطلق 180 رصاصة خلال 7 أو 8 دقائق، قتَل بها نحو 40 شخصاً، أي 4.5 طلقة لكل ضحية، وهو معدل مرتفع أولاً، ويثبت التخطيط المسبق لاستهداف أكبر عدد من القتلى الأجانب.
وبالتأكيد أن شخصاً بهذه المواصفات لن يكون وحده، سيكون وراءه من خطط لهذه العملية، فيمكن أن يكون المنفذ بإطلاق النار واحد، ولكن هناك من يشاركه في العملية ودون أن يشاركوه في إطلاق النار، بدليل أن السلاح الذي وُجد في المكان يعود لشخص واحد، وكذلك فإن تركه سلاحه في المكان هو نوع من التخطيط المسبق للهرب دون لفت الأنظار إليه، إن لم يكن المنفذ بين القتلى، أو إن لم يكن من الجهاز الأمني الذي يعمل في المكان نفسه، كما حصل في مقتل السفير الروسي قبل أسابيع.
إن الجهات التي استهدفت تركيا في السنوات الأخيرة أصبحت معلومة للشعب التركي، وفي مقدمتهم التنظيم الانقلابي للكيان الموازي التابع لفتح الله غولن، فهذا التنظيم وبعد أن فشل في الوصول إلى هدفه عن طريق الانقلاب العسكري الأخير، بدأ تنفيذ عمليات إرهابية انتقامية، علماً بأن عدداً من رجال الشرطة والأمنيين والعسكريين الذين شاركوا في الانقلاب لا يزالون فارّين من وجه العدالة، وهؤلاء أصبحوا يرتبطون بالتنظيم سرياً، ويتلقون تعليماته سواء أكانوا في مراكز عملهم أم مختفين عن الأنظار، ودخولهم إلى ملهى ليلي وخروجهم منه بسهولة أمر ممكن مع خبرتهتم السابقة بمعرفة المكان، ولعل الكشف عن نوع السلاح المستعمل وكيفية إدخاله للملهى، سوف يكشف عن أمور مهمة لمعرفة الجهة المنفذة لعملية القتل، فكون المنفذ القاتل من تنظيم غولن احتمال قوي، وبالأخص أن عناصر هذا التنظيم تنفذ أوامر زعيمها دون اعتراض إطلاقاً.
الجهة الثانية التي تستهدف تركيا، هي الأحزاب الإرهابية التي تدّعي تمثيل الشعب الكردي داخل تركيا وخارجها، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني، وقد دخلت في صراع متواصل مع الدولة التركية منذ إعلانها في يونيو/حزيران عام 2015 وقف مباحثات السلام الداخلي، وأعلنت تبنيها أعمالاً إرهابية كثيرة منذ ذلك التاريخ، وبعد فشلها في جذب المواطنين الأكراد في جنوب شرقي البلاد لجأوا إلى استهداف تركيا في المدن الكبرى مثل أنقرة وإسطنبول وغيرهما؛ للتأثير على قرار الحكومة التركية والضغط عليها، وبالأخص أن الدولة التركية تستهدف مراكزهم العسكرية في شمالي العراق وشمالي سوريا بالقصف العسكري المباشر، ولا يُستبعد تنسيقهم مع الكيان الموازي في أعمال إرهابية ضد تركيا.
الجهة الثالثة التي تبنت أعمالاً إرهابية ضد تركيا في السنوات الأخيرة، هي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولعل تحديد نوع المكان بملهى ليلي سوف يرجح هذا الاحتمال، وقد يكون هذا الاستغلال مقصوداً من قِبل الجهة المخططة حتى تنحصر التهمة بتنظيم داعش، ولكن هذا يحتاج إلى أدلة قاطعة، فـ"داعش" اليوم تنظيم سياسي وعسكري، ولا يستهدف الدول الأخرى لأسباب فكرية عقدية أيديولوجية فقط، وإنما على أساس من يوظفها في استهداف هذا المكان أو ذاك، وتلك الدولة أو غيرها، وقد اتهم الرئيس أردوغان أمريكا قبل أيام بدعم التنظيمات الإرهابية من حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب وتنظيم داعش أيضاً، وعلى الرغم من إنكار أمريكا ذلك، فإن الدعم العسكري الذي تتلقاه "داعش" يؤكد أن داعش تنظيم دولي له صلاته مع أجهزة الاستخبارات الدولية الكبرى الغربية والشرقية والإقليمية، بما فيها علاقاته التنسيقية مع الحرس الثوري الإيراني في سوريا والعراق وغيرهما، بدليل عدم استهداف "داعش" إيران إطلاقاً منذ نشأتها، كما يؤكد ذلك عدد من المختصين بالتنظيمات المذهبية الطائفية والإرهابية.
إن لكل هذه الاحتمالات درجتها، وليس بمستبعد أن تكون الجهات الدولية الخارجية المستهدفة لتركيا استطاعت التنسيق بين هذه التنظيمات الإرهابية الثلاثة، وبالأخص أن تركيا مصرة على الاستقلالية بقرارها السياسي الداخلي والخارجي أيضاً، فالحكومة التركية عازمة على تطهير البلاد من الكيان الموازي بوصفه كياناً إرهابياً قاتلاً للشعب التركي، وبوصفه تنظيماً انقلابياً يرتبط بالقوى المعادية لتركيا. وكذلك، فإن تركيا مصرة على استقلالية قرارها الاقتصادي ومواصلة بناء تركيا الجديدة لتكون بمصاف الدول العشر الأولى حتى عام 2023، وهي اليوم تشهد عملية بناء كبيرة لا ترضي المنافسين الاقتصاديين، الذين يعملون لعرقلة بناء تركيا الجديدة، فالمشاريع الاقتصادية والإنشائية الكبيرة التي افتتحتها تركيا عام 2016 فقط تقلق أعداء تركيا.
وأخيراً، فإن إصرار تركيا على الاستقلالية في البحث عن حل للأزمة السورية، بغض النظر عن الجهة الراعية إن كانت شرقية أو غربية، هو أحد أسباب الاختلاف مع تركيا، فالمهم بالنسبة للحكومة التركية هو نجاة الشعب السوري، وأن يبدأ الشعب السوري بشق طريق السلام والأمن والمصالحة الداخلية، التي يصنعها الشعب بنفسه ووحده، وبمساعدة الدول والشعوب الصديقة، بعد طرد كل المليشيات الأجنبية من سوريا، مهما كانت هويتها الطائفية والقومية، أي إن تركيا تدفع ثمن مواقفها السياسية والاقتصادية والحضارية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس