علي خيري - خاص ترك برس
انتظرته أنا وصديقي أمام دكانه المغلق، كانت أنفاس الشتاء الباردة تلسعنا بشدة، وكان حزن صديقي يحرق روحه وروحي أيضا، جاء من كنا في انتظاره إنه الحانوتي تاجر الأكفان، رجل خمسيني المظهر رمادي الشعر منحني القوام متوسط الطول، ذو ملامح لا أعرف إن كانت غير مريحة أم أن حالتي النفسية المضطربة وقتها هي ما هيأت لي هذا الشعور، بمجرد أن فتح باب الدكان هبت علينا رائحة غريبة نسبتها فورا للموت، لم تكن رائحة سيئة بالعكس كانت رائحة تميل للعطور إلا أنها تقبض الروح، السواد الذي صمم الحانوتي على دهان الأطر الخشبية به زاد من شعوري بالانقباض.
كنت قد قرأت أن أهل الأندلس كانوا يرتدون البياض في حالة الحداد، فهل كانوا ينقبضون للون الأبيض كما ننقبض نحن من اللون الأسود، أقصد أن أقول هل المشكلة في اللون نفسه أم فيما يعنيه هذا اللون؟.
كان كل ما يشغل صديقي هو إكرام شقيقته المتوفاة بأفضل كفن، عندما نظرت إلى الحانوتي وجدته ينظر إلينا نظره التاجر إلى عملائه، على الرغم من أنه كان يصطنع الحزن أثناء مخاطبتنا، من الواضح أن هذا الحزن المصطنع هو أيضا من لوازم الصنعة، فكرت كيف اختار هذا الرجل مهنته، كيف يعيش حياته مع كل هذا الموت؟ هل من الممكن أن يحلم صبي بأن يصبح حانوتي عندما يكبر؟، هي مهنة غاية في الأهمية بالنسبة لنا نحن بني البشر، ولكن من الذي يحب أن يمتهنها؟.
تخيلت مشاعر هذا الرجل في أيامه الأولى في مهنته، هل كان يتألم لألم كل حالة يعاينها ويمارس مهمته معها، ما نظرة هذا الرجل للموت، هل ألفه وتقبله كجزء أساسي في حياته، بل من المفترض أن يصدر إليه كجالب للرزق، أم أنه يخشاه هو الأخر كخشيتنا له.
ولكن هل الحانوتي فقط هو من يعيش حياته مع الموت، ألم يصبح الموت رفيقا يوميا لرحلاتنا في نشرات الأخبار، أهلنا في فلسطين وسوريا واليمن وليبيا والعراق وبورما يموتون أمامنا بصورة يومية، بل في كل لحظة ودقيقة ونحن لا نحرك ساكنا، بل إننا نعيش حياتنا بدون أي منغصات، جل ما من الممكن أن نفعلة هو أن نضغط زر أحزنني على الفيس بوك، وذلك لكي نريح ضميرنا المحتضر، أو من الممكن أن نكتب المقالات النارية والمنشورات البليغة ثم ننتظر مردود هذة الكلمات في صورة الحصيلة التي نجنيها من الإعجابات والمشاركات، مثلما ينتظر الحانوتي ثمن الكفن الذي أشتريناه منه.
أكثر ما أخاف منه أن أنقلب في مشاعري إزاء الموت الذي يحاصر أمتنا، والكوارث التي تكتنفنا من كل جانب إلى مجرد حانوتي، مهمتي تنحصر في أن أظهر حزني لأن هذا أصبح جزءا من مهنتي، أو لأنني أعتدت على مجرد إظهار الحزن دونما أي محاولة مسبقة لإنقاذ أمتنا المريضة.
حاول أن تكون طبيبا يداوي جراح الأمة ولا ترضى لنفسك بمكان الحانوتي الذي ينتظر موتها ليقوم بدوره.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس