جلال سلمي - خاص ترك برس
لم تفلح الزيارة التي قامت بها المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" لتركيا الشهر الماضي، في صنع مناخ إيجابي يمنع نشوب توتر جديد بين تركيا وألمانيا، فمع اقتراب عملية الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية الخاصة بتغيير نظام الحكم في تركيا، عاد الصدام الإعلامي والدبلوماسي الحاد بين الطرفين هو سيد الموقف.
عشرة هو عدد محطات التوتر بين الطرفين خلال أقل من عام، أما التوتر الأخير فكان سببه اعتقال الصحفي في صحيفة داي وويلت الألمانية "دانيز يوجال" الذي اعتقل بتهمة تسريب الرسائل الإلكترونية لوزير الطاقة والمصادر الطبيعية التركي براءت البيرك، الأمر الذي قابلته ألمانيا بمنع بعض وزراء العدالة والتنمية من إجراء حملات انتخابية لصالح حزبهم الذي يرغب في تمرير التعديلات الدستورية خلال الاستفتاء المزمع إجراؤه في السادس عشر من نيسان/ أبريل المقبل، وقد اعتبرت تركيا ذلك تصرفًا مقصودًا وغير ديمقراطي، واستدعت على إثره السفير الألماني "مارتين أردمان" للاحتجاج.
إذًا، محطات عدة أظهرت شواهد لتوتر دبلوماسي وإعلامي بين تركيا وألمانيا، وعند التمعن بالأجواء المحيطة بالتطورات الداخلية والخارجية في كلا البلدين، يمكن استخلاص أهم أسباب التوتر الدبلوماسي التركي الألماني على النحو التالي:
ـ الميول إلى الأسلوب الشعبوي قبل موعد الانتخابات
الواضح أن الأسلوب الشعبوي الذي يستثير العواطف القومية والدينية والتخوفات النفسية بعيدًا عن المنطق والواقع، لم يقتصر على القادة الشرقيين ذوي الشخصيات الكاريزمية، بل انتقلت عدواه إلى الدول التي تصنف نفسها على أنها "ديمقراطية"، حيث عكس الرئيس الأمريكي المنتخب حديثًا "دونالد ترامب" هذا الأسلوب بشكل بائن.
ولم يقف الأمر على الولايات المتحدة، بل طال عددًا من الدول الأوروبية أيضًا، وكانت النمسا التي هاجم بعض أحزابها تركيا بشدة قبيل الانتخابات الرئاسية التي جرت في 5 كانون الأول/ ديسمبر المنصرم، إحدى الدول التي ركنت إلى الأسلوب الشعبوي الذي كانت ضحيته تركيا التي تُهاجَم من قبل الدول الأوروبية "على أنها دولة إسلامية تهدد بنظامها السياسي الحالي أمن واستقرار الاتحاد الأوروبي".
واليوم "على ما يبدو" أن الحزب الألماني الحاكم ـ الاتحاد الديمقراطي المسيحي ـ يحاول الركون إلى هذا الأسلوب لكسب أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية التي يُتوقع أن يتم إجراؤها في أيلول/ سبتمبر 2017.
وفي حال كان هذا السبب هو أحد الأسباب الحقيقية لاندفاع ألمانيا نحو توتير العلاقات مع تركيا بشكل معتمد في إطار استخدام الأسلوب الشعبوي، فإن ذلك يعني أن العلاقات بين البلدين قد تتوتر قبل كل عملية انتخابات تحدث في ألمانيا.
ـ الاستمرار في مسلسل الضغط على تركيا
تُشير التصريحات الأوروبية التي تعقب كل توتر، إلى أن دول الاتحاد الأوروبي ترغب بإبقاء تركيا في نطاق خدمة مصالحها وفي إطار المعايير الأوروبية الديمقراطية، فربما يكون النظام الرئاسي الجديد حسب النظرة الأوروبية نظامًا سلطويًا.
ومن أجل إجبار تركيا على القبول بتطبيق إملاءات السياسة الأوروبية المتعلقة بأزمة اللاجئين، وتعزيز التعاون الدبلوماسي مع الاتحاد الأوروبي، والابتعاد عن التعاون مع الأطراف الأخرى، وخاصة روسيا، يبدو أن دول الاتحاد الأوروبي ترى أن سياسة الضغط الإعلامي والدبلوماسي قد تُجبر تركيا على البقاء في البوتقة التي تريدها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ ألا يمكن أن يدفع هذا الضغط بتركيا نحو المزيد من التعنت.
ـ تقييم ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي التطورات الجارية في تركيا "بالتطورات المخالفة للمعايير الديمقراطية"
بالرغم من عدم تصويت الاتحاد الأوروبي، حتى الآن، لصالح انضمام تركيا التي تنتظر على أبوابه منذ عام 1959، لها بالكامل، إلا أنه يرى فيها شريكًا دبلوماسيًا وأمنيًا واقتصاديًا وجغرافيًا هامًا، فتركيا الحليف الشرقي التقليدي للاتحاد الأوروبي الذي وفر من خلال هذا التحالف حماية حقيقية وناجعة لحدوده دوله القومية، كما تُعد تركيا الحليف الاقتصادي الذي يمنح بموقعه الجغرافي الاستراتيجي دول الاتحاد الأوروبي جسرًا واصلًا بينها وبين دول الشرق الأوسط.
وانطلاقًا من ذلك الطرح، على الأرجح تسعى ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي إلى الحفاظ على تركيا كشريك ولكن وفقًا للمعايير الديمقراطية التي تقيمها دول الاتحاد على أنها ضامنة حقيقية لتلك العلاقات والمصالح، وهذا ما يفسر معارضة دول الاتحاد، وعلى رأسها ألمانيا، للتعديلات الدستورية التركية الجديدة، كونها تساهم، وفقًا لرؤيتهم، في تحويل النظام البرلماني الديمقراطي إلى نظام رئاسي يرسخ حكم الشخص الواحد، حيث يشعرون بالتخوف الحقيقي من تحول تركيا إلى نظام قائم على الكاريزما الشخصية التي تخالف توجهات الاتحاد الأوروبي الديمقراطية المؤسسية.
في العموم، لا يمكن نفي توظيف تركيا أيضًا لحالة التوتر في شحذ نفوس مواطنيها الذين كغيرهم عادةً ما يشعرون بالنزعة القومية والوطنية الشديدة في حال وجود توتر بين بلدهم وبلدٍ أخرى. هذه النزعة تولد حالة تعبئة شعبية تؤدي إلى اصطفاف الشعب خلف حكومته، مقيًّمًا الأمر على أنه "مصلحة وطنية" تقتضي التعاضد الوطني، ولا شك في أن هذا التعاضد يخدم حزب العدالة والتنمية في حصد المزيد من الأصوات المؤيدة للتعديلات الدستورية التي طرحها.
لكن تركيا وألمانيا على وجه الخصوص تجمعهما العديد من العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية الوطيدة، فألمانيا "مختار" الاتحاد الأوروبي وبالحفاظ على مستوى جيد من العلاقات معها تضمن تركيا وجود عنصر مؤثر في مسار العلاقات السياسية المشتركة بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي، كما تعتمد ألمانيا على تركيا بشكل وثيق لحل أزمتي اللاجئين والإرهاب، وألمانيا هي الشريك التجاري الأول لتركيا، وهناك أكثر من مليون مواطن تركي مقيم في ألمانيا، وعلى ما يبدو قد تجعل هذه العوامل التوترات المتواترة بين الطرفين تخفت سريعًا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس