د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
يجدر بالشّعوب المخلصة لأبنائها أن تتذكر في كل فترة أمجاد كبار رجالها ومبدعيها ومصلحيها ومفكريها وغيرهم. هذا التذكر يُعد اعترافًا بالجميل لهؤلاء العظام الذين تركوا بصماتهم جلية في جانب من جوانب الحياة أو في كثير من مجالات الحياة. وخير الدّين باشا التونسي، وإن كان شركسي الأصل حسب أكثر الأقوال إلا أن نشأته في تونس والفترة الطويلة التي قضاها في خدمة البلاد جعلت منه تونسيّا أكثر من كثير ممن يزعمون الانتساب إليها بينما لم تر منهم البلاد سوى البلاء.
أغلب الباحثين التّونسيين يعرفون منجزات خير الدين باشا وإصلاحاته العسكرية والعلميّة والسّياسية في مرحلة وجوده في تونس، لكن القليل منهم فقط ربما يعرف أنه ترقى في المناصب السّياسية حتى اختاره السلطان عبد الحميد الثاني صدرًا أعظم (رئيس وزراء) على رأس الحكومة العثمانية في أحلك الظّروف وأصعب الأوقات بالنسبة إلى الدولة.
ترجح أغلب الروايات أن مولد خير الدين التونسي كان ما بين عامي 1820 و 1825 م. وتشير أغلب المصادر التركية إلى أن أصله شركسي، وخير الدين نفسه يذكر أنه شركسي. اشتراه والي تونس أحمد باي، وسرعان ما اكتسب ثقته وثقة الوزير الأكبر مصطفى خزندار. أنشأ المدرسة الحربية في باردو، وأدخل تعليم اللغة الفرنسية للاطلاع على المؤلفات والتقنيات العسكرية الحديثة. ثم ارتقى خير الدين بسرعة في الرتب العسكرية، وتم اختياره لمرافقة أحمد باي في زيارته لفرنسا في عام 1846م. وبين سنتي 1873 و 1877 عين وزيرا أكبر في الحكومة التونسية.
وبعد أن دخلت البلاد التونسية في أزمات اقتصادية وسياسية متفاقمة وكثرت ضده المؤامرات خصوصا من مصطفى بن إسماعيل المقرب من الباي، فضل الاستقالة من وظائفه السياسية في تونس. وفي هذه الأثناء وصلته دعوة من السلطان عبد الحميد الثاني للإقامة في اسطنبول. استقبل خير الدين باشا من قبل رئيس الديوان حمدي باشا ومدير مكتب الديوان علي فؤاد بك، وخصص له جناح في قصر دولمه باغجه لإقامته.
لم يمض وقت طويل حتى تم تعيينه بتاريخ 30 سبتمبر سنة 1878م وزيرا وعضوا في مجلس الأعيان في الوقت نفسه. وخصص له راتب بالعملة المجيدية ما مقداره 10 آلاف ريال تونسي. وفي مقابلة مع الصدر الأعظم صفوت باشا نقل إليه قلقه من وجوده في اسطنبول بينما أسرته لا تزال في تونس، وتخوفه كذلك من ثقل المهمة التي كُلّف بها بينما لا يزال غير مطلع على دواليب الحكم في الباب العالي. إلا أنّ السلطان عبد الحميد تمسك بتعيينه في وظائف عليا في الدولة. وفي خطاب رسمي صادر عن الصدارة إلى والي تونس جاء فيه ما يلي "نظرا إلى الخبرة الإدارية والمعلومات الواسعة التي يتمتع بها حضرة صاحب السّعادة خير الدين، أحد أهم رجالات الإدارة في الحكومة التونسية، فقد صدرت الإرادة السلطانية بالاستفادة من إمكانياته ويتم نقله من إدارة الولاية إلى الخدمة في دار السعادة باسطنبول" (الأرشيف العثماني، Y.EE 33/1241).
وفي تلك الأثناء تم تشكيل "لجنة الإصلاحات المالية" بتاريخ 30 أكتوبر سنة 1878م، وعين خير الدين رئيسا لها، إلى جانب وجود فرنسيين وبريطانيين إضافة إلى بعض الموظفين من الإدارة العثمانية معه في هذه اللجنة. ومهمة هذه اللجنة هي إعداد خطة للإصلاحات في المجال المالي. واستمر في عمله في رئاسة اللجنة لمدة شهر واحد، ليعين رئيسا للوزراء بتاريخ 4 ديسمبر سنة 1878م.
ومن أجل جلب أفراد عائلته من تونس إلى اسطنبول أمر السلطان عبد الحميد بتخصيص سفينة تابعة للدولة لهذا الغرض، ووهب السلطان خير الدين باشا وعائلته منتجعا يقع على ضفاف البوسفور تم شراؤه من ممتلكات الخزينة الخاصة.
بعد مجيء عائلته من تونس بيوم تم استدعاؤه من قبل السلطان إلى القصر حيث تم إخباره بعزل صفوت باشا من منصبه وتعيينه في منصب الصدارة العظمى، فأبدى خير الدين التماسا بإعفائه من هذه المسؤولية إلا أن طلبه لم يُقابل بالموافقة.
لم يكن خير الدين يجيد التركية عندما قدم إلى اسطنبول، ولا توجد معلومات حول معرفته بالتركية في تونس، ولذلك كان يكتب اللوائح والمكاتبات باللغة العربية ويعرضها على القصر وعلى الديوان بالعربية كذلك، أما حديثه مع السياسيين فكان إما بالعربية أو بالفرنسية.
عند شروع خير الدين في ممارسة مهمته في رئاسة الوزراء كان السلطان عبد الحميد الثاني قد أكمل سنتين على العرش، ولكن في هذه الفترة القصيرة وقعت أحداث جسام مثل الحرب ضد صربيا والجبل الأسود، وأحداث البوسنة والهرسك إضافة إلى عقد مؤتمر اسطنبول وصدور أول دستور عثماني وافتتاح أول مجلس نيابي وكذلك اندلاع الحرب الروسية – العثمانية، ثم إلغاء المجلس النيابي. كما تم في هذه الفترة عقد اتفاقية مع انكلترا ضمت بموجبها قبرص إلى ممتلكاتها بتاريخ 4 جوان 1878م، وعقد اتفاقيتي استيفانوس (3 مارس 1878) وبرلين (13 يوليو 1878). وبموجب هذه الاتفاقيات فقدت الدولة العثمانية أجزاء شاسعة من أراض كانت تحت سيطرتها.
وكانت فترة خير الدين باشا مليئة بالمشاكل والمسؤوليات الناجمة عن عقد معاهدة برلين، هذه المعاهدة التي وقعت فيها تفاهمات سرية لاقتسام أجزاء واسعة من الدولة العثمانية. حيث تبين في فترات لاحقة أن فرنسا خططت للسيطرة على تونس، وانكلترا وضعت عينها على مصر، في حين بدأت إيطاليا في البحث عن الطرق المناسبة لاحتلال طرابلس الغرب. بينما لم تبد ألمانيا أية معارضة لهذا المخطط الذي بدأ تنفيذه بعد سنوات قليلة فقط.
قابل خير الدين التونسي عددا من السفراء، وقد أبدى السفير الفرنسي باسطنبول "فورنيي" استياءه وعدم ارتياحه لتعيين خير الدين باشا رئيسا للوزراء لأن هذه الخطوة سوف تعرقل مخططات فرنسا في الاستيلاء على تونس والتي بدأت منذ مؤتمر برلين، فقد كان يعرف ميول خير الدين العثمانية ودفاعه عن بقاء تونس ولاية عثمانية.
اقترح خير الدين إنشاء مؤسسة تراقب مؤسسة الخلافة وتحاسبها، فقوبل اقتراحه بالرفض من قبل السلطان عبد الحميد، كما رفض السلطان فكرة إصدار دستور ثان وإنشاء مجلس نيابي لأن الظروف لم تكن تسمح بذلك حسب نظره. كل هذه الاعتبارات وغيرها حالت دون تنفيذ خير الدين لأفكاره الإصلاحية ووجد نفسه في طريق مسدود.
لقد بذل خير الدين ما في وسعه خلال الثمانية شهور التي شغل فيها منصب الصدر الأعظم، وحاول تحقيق النجاح في هذه المهمة المحاطة بالأشواك في ظروف قاسية واستثنائية بكل معاني الكلمة. وكان من أهم ميزاته عدم الانقياد التام لإرادة السلطان والحفاظ على هيبة منصب الصدر الأعظم.
بعد عزله من منصب الصدر الأعظم لم يتم إبعاده من اسطنبول كما فُعل بكثير ممن قبله، وشاع كلام بقرب تعيينه واليا على طرابلس الغرب أو سفيرا في باريس. ولكن ذلك لم يحدث، فالمؤكد أن السلطان عبد الحميد رغب في بقائه في اسطنبول كي لا يفتح على نفسه بابا للمشاكل من ناحية ولكي يستفيد من خبراته مستقبلا عند الحاجة. واستمر صرف راتبه، وبالفعل قدم خير الدين باشا للسلطان الكثير من اللوائح الإصلاحية وغيرها من الاستشارات إلى أن توفي في عام 1890م.
لقد اهتم كثير من الباحثين الأتراك اليوم بخير الدين باشا التونسي، ومنحوه المكانة التي يستحقها كسياسي ومفكر وعسكريّ محنك، وأُلفت بشأنه الكثير من الرسائل الجامعية والبحوث الأكاديمية من أهمها كتاب للبروفيسور المتخصص في تاريخ شمال أفريقيا "أتيلا جتين". وهو اليوم يمثل همزة وصل حقيقية بين الشّعب التونسي والتّــركي ففضله على البلدين كان كبيرًا وهو حيّ، وفضله لا يزالا كبيرًا وجسده تحت الثّرى.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس