نورس العبدالله - خاص ترك برس
أعلنت محكمة العدل الأوروبية في يوم 14 آذار/ نيسان من العام الحالي أن المؤسسات يحق لها أن تحظر ضمن قانونها الداخلي أي إبراز أو ارتداء لرموز سياسية أو فلسفية أو دينية، للحفاظ على حيادتيها وفق شروط.
وتابعت المحكمة قائلة في معرض قرارها إن "منع الحجاب في إطار قانون داخلي لمؤسسة خاصة يمنع أي إبراز أو ارتداء أي رمز سياسي أو فلسفي أو ديني في مكان العمل، لا يشكل تمييزا مباشرا على أساس الدين أو العقيدة".
ذلك يعني أن بإمكان الشركات وأرباب العمل في الاتحاد الأوروبي منع الموظفين من ارتداء أي رمز أو لباس له دلالة سياسية أو فلسفية أو دينية بما فيها الحجاب.
بمعنى أدق ونظرة أبعد مدى أصبح بإمكان اليمين المتطرف ودون الحاجة للوصول إلى أغلبية برلمانية أن يضيق الخناق أكثر على المسلمين في أوروبا من خلال الضغط عليهم معاشيًا في المؤسسات التي يديرها أشخاص من جمهور اليمين ومؤيدي أفكاره هذا الجمهور الذي ينمو ويكبر يومًا بعد يوم، وسيؤدي فيما يؤدي بمجهود تراكمي إلى عزل المسلمين عن حركة المجتمع ونشاطه التجاري والمؤسساتي ليُستثمر لاحقًا كبرهانٍ ودليل على تقوقع نسبةٍ كبيرةٍ من المسلمين على أنفسهم وعدم اندماجهم في مجتمعاتهم وغياب نفعيتهم له فيكون ذلك عنوانًا عريضًا لتغذية برامج اليمين الانتخابية، فمن المتوقع طبعًا إذا ما مست حرية الفرد اهتزت ثقته في مجتمعه ونأى بنفسه عن كل ما قد يؤدي إلى ذلك المساس صونا لذاته وحفاظًا على كيانه وخصوصيته.
هذا القرار الذي نقل سلطة التشريع بأمر يمس الحرية الشخصية للإنسان ويحد منها ويقيدها من حكومة وبرلمان إلى مجالس الإدارة ومفاهيمها الخاصة ومزاجيتها في الحياة ومنحها سلطة تقيد الحرية التي تعتبر حقًا طبيعيًا للإنسان وأساسيًا للفرد، قد ظهر شكلًا ينشد العدالة والحياد ولكن هذا الظهور لم يغطي سوءة المقصود العنصري موضوعًا.
وحقيقة يشعل هذا القرار نار الشك في مروج الفكر ويبرق في سماء تبدو صافية عدت أسئلة أخلاقية؟
- ألا تقترب تلك الصلاحية لأرباب العمل على الموظفين من سلطة السيد آنفًا في ظل نظام العبودية، ألم تكن العبودية بأحد معانيها ومدلولاتها تعني تملك إنسانٍ (هو السيد) قرار إنسانٍ آخر (هو العبد) ومصادرة حريته ووقته، وتعني أيضًا فيما تعني خضوعًا لإرادته ونواهيه، بذلك يكون إعطاء رب العمل سلطة التحكم الجزئي تلك والحد من حرية الموظفة وقرارها الخاص بأمر شخصي لا يخالف القانون أصلًا يعني تشريع عبودية جزئية ويقترب منها بالعار الأخلاقي بشكل أو بآخر.
ويقرع إنذارًا علنيا بحالة التناقض بين مفهوم يشكل الأساس الفلسفي الأخلاقي الذي طالما تغنت به القارة العجوز وهو الحرية الشخصية واحترام شعائر الإنسان وحرية عقائده وممارسته لها وبين السماح بحظر ارتداء الحجاب.
- ويناقض محطات كبرى بالتاريخ الأوروبي والإنساني كإعلان حقوق الإنسان والمواطن في أعقاب الثورة الفرنسية التي سقت موادها السبعة عشر من نبع فكري لقانون طبيعي للحقوق والحريات العامة يتضمن مجموعة من المبادئ التي يجب على المشرع أن يحترمها ويكرسها بالتشريع لأنها سابقة على وجود المشرع نفسه ورسمت أحرفه من مداد حبر يقول فيه (هوبز ولوك وجان جاك روسو) أن الحرية حق طبيعي لصيق بالشخصية الإنسانية لا يجوز النيل منها أو تقيدها إلا من أجل المحافظة عليه، ألا يناقض روح وقيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عن هيئة الأمم المتحدة في عام 1948.
وأما اعتبار المحكمة أن ذلك أمر لا علاقة له بالتمييز على أساس الدين ويرمي للحفاظ على حيادية المؤسسة، فهو اعتبار غير موفق إطلاقًا و يسعى لإيجاد مسوغٍ أخلاقيٍ للقرار من خلال تبريره بنتائج ذات نفعية تترتب على اتخاذه، إلا إن كان النفع المرجو حقيقة هو تعزيز المفاهيم العنصرية وتغذية اليمين غربيا كان أم شرقيا.
وإذ يبدو ظاهريًا من القرار أن الحجاب بذاته ليس المستهدف به ولا المسلمات اللواتي يرتدينه إلا أن الواقع لا يحتاج لبيباً أو حكيما وبنظرة بسيطة من غير متفحص لإشارةٍ فاهمٍ للتلميح يدرك أن لا ضرر ولا صدام ولا مفاضلةً قاسيةً بين العمل والمعتقد سيحصل سوى للمحجبة التي ترتدي حجابها طاعة لأوامر دينها.
وأما إرفاق القرار لقيدين من خلال عبارتي "هدف مشروع" وعبر "سبل ضرورية ومواتية" في متنه يفتح الباب لآفاق أبعد لغد أكثر ظلمًا، فهل سيكون ذات الهدف المشروع الذي يبيح الحظر مبررا في قادم الأيام لفرض لحم معين كالخنزير مثلا على الموظفين المسلمين في وجبات الغداء حتى لا يكون هنالك شقاق في روح الفريق الواحد، أو يجيز السماح للشركات بإجبار من يصوم عن الطعام أو بعض أنواعه على اختلاف من الزمن والأشهر والأديان على تناوله مع بقية الكادر الوظيفي فكلا الأمرين يستويان من حيث الحجة والسبل.
كما أباح هدف مشروع آخر أي (الأمان) وبسبل مواتية بنفس السياق أي (الطرد) فرض أمن مطار إيطالي على مسافرة مسلمة محجبة نزع حجابها لصعود الطائرة حتى تزول المخاطر الأمنية التي قد تخفيها في حجابها الذي يمنع رؤية شعرها من الجميع على حد زعمهم، رغم أن اللباس الذي يرتديه البشر من جميع ألوانهم وأجناسهم يغطي بقعا أخرى من الجسد ويشكل تهديدا أمنيا أيضا من ذات المنظور ولم يفرض يومًا على الركاب الصعود عُريًا إلى الطائرات.. بل يتم تفتيشهم.
حقيقة لا يمكن إيجاد مسوغات أخلاقية تجعل من هذا القرار يرقى للصدور من محكمة العدل الأوروبية حتى لو اجتهد كثير من فلاسفة التشريع والقانون في تجميله وتبقى عبارات موجزة قالها وزير العدل التركي بكر بوزداغ في وصف القرار ومعانيه بيان شافي وتعبير كاف فغرد قائلًا: "قرار محكمة العدل الأوروبية بحظر ارتداء الحجاب في أماكن العمل إبادة لمبادئ حرية الاعتقاد وحقوق الإنسان فضلًا عن قيم الاتحاد الأوروبي نفسه"، ووصفها بأنها وصمة عار للعدالة لا يمكن مغفرتها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس