نورس العبدالله - خاص ترك برس
يبدو أن بعض العظماء يخوضون معارك كبرى ليست أثناء حياتهم فقط بل تمتد لفترة طويلة من الزمن، متجاوزة حدود المكان الجغرافي الذي وقعت به ومدى عقارب زمن جرت أحداثها خلاله، وتمتد نتائجها لتنمو في مدى أبعد.
يعود ذلك إلى أهمية ما فعلوا وعظم الإنجاز الذي حققوه لأمتهم وقيمة المشروع الذي بنوا وقادوا وصنعوا، ويتناسب كل ذلك طردًا مع الضرر الذي ألحقوا بالأعداء وبمشروعهم والانهيار في بنيانهم وآمالهم.
ومن الطبيعي جدًا أن يتحول العظيم هذا إلا رمز لأمته وقدوة يقاس بها نظراؤه على مر الأيام ويتحول لعدو لدود وشخصية كريهة لأعدائه الذين هزموا، إلا أن بعض الاستثناءات موجودة فعلًا لجهة إجماع أو شبه إجماع على أخلاقية وعدالة وشرعية تصرفات ذلك الرمز ويصبح مثالًا يحتذى به، ومنهم السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كان وما زال رمزًا كبيرًا حاز على محبة وقلوب أمته ونال إعجاب الكثير من المنصفين من أعدائه الفرنجة والمستشرقين والباحثين الغربيين.
صلاح الدين وبوصفه واحدًا من العظماء الذين خاضوا معارك كبرى ليست عسكرية فقط بل معارك شاملة غيرت واقعًا و رسمت واقعًا آخر، وواجه العديد من الخصوم في ذلك، تمتد آثار معركته بعد وفاته بما يمثله من نموذج ومثال ونهج، بل إن قائمة الأعداء والخصوم له تكبر وتزداد حتى مع قضايا لم تعاصره، ومنها مثلًا هجوم بعض القومين الأكراد عليه كونه لم يؤسس الدولة الكردية في ذلك الحين رغم أن فكرة الدولة القومية والعرقية نشأت بعد وفاته بقرون عديدة.
وقد أطل أحدهم مؤخرًا وهو المصري يوسف زيدان والذي بات معروفًا اليوم بعد ما قاله، وذلك في قناة إعلامية تزور الحاضر الملموس والمشاهد المحسوس جهارًا نهارًا، وهي إحدى قنوات نظام السيسي في مصر وكفى بذلك دلالة لكل فطن.
أطلت هذه الشخصية بهجوم بأبشع الأوصاف على الرمز الكبير صلاح الدين الأيوبي.
ولسنا هنا أمام شرح قيمة وأفعال صلاح الدين الأيوبي وإنجازه وسيرة حياته إذ إنها من الوضوح بمكان لأبناء الأمة المسلمة ما لا يحتاج لشرح ولا بيان.
ولا بمعرض ذكر التهم التي طرحتها تلك الحالة والبحث في ماضيها والرد عليها إذ أن كلامه مهدور لا يستحق الرد ولا التمحيص.
وإنما الهدف ها هنا ببساطة شديدة هو لفت النظر في أسباب الطعن في رموز وعظماء راسخة في أذهان الأمة الإسلامية وفي ضميرها الجمعي الحي الذي يصعب التلاعب به بمجهود بسيط.
حقيقة إن هذه الحالة واحدة من حالات تتجدد في كل فترة وكل عهد من الزمن يحاول أصحابها إما تحت هوس مرضي هو مخالفة المألوف أو توحد توهموا فيه أن التنوير والعقلانية تكون بمهاجمة حقائق تاريخية ورموز تم الإجماع عليها معنونين شذوذهم الفكري وسفاهة ألسنتهم بأنهم ليسوا كأفراد القطيع ولا يخضعون للتضليل وتمجيد الأشخاص ولا يصفقون لأحد.
وعند الرد عليهم وتفنيد أقوالهم ورفض جمهور الناس لما يطرحون بل الشعور بالقرف منه، تكتمل لوحة المظلومية التي يرسمونها ويصبحون في أعينهم فقط أو أعين من ينهج نهجهم الشاذ ضحايا الموضوعية والعقل النقدي أمام جموع العامة المخدوعين والغوغاء.
وتوجد حالات أخرى تنطلق من شعورها بالهزيمة النفسية والثقافية والفكرية وتتبنى طرح من هزم في معارك العظماء تلك العسكرية والفكرية والأخلاقية، لتعود به مع إبداعات إضافية من صنف الافتراء القميء والعفن ليصبح ما تطرحه حجة ودليل لمن تأثروا بهم بداية.
هل كانت هذه الحالة تنتمي لأحد الصنفين السابقين أم أن الأمر أعمق...؟؟
لا بد من أن نتذكر هنا نهجا ظهر في مصر في مطلع القرن العشرين، ذلك النهج الفكري قام بشن هجومٍ عنيفٍ على عروبة مصر وانتمائها للأمة الإسلامية ونما وكثر تحت اسم فرعونية مصر وهويتها الخاصة، وبات يعرف بتيار اليمين القومي المصري، الذي راج في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين حيث رسموا هوية مصرية مستقلة تخوض حربًا مع العروبة والإسلام.
حيث اعتبر أتباع ذلك التيار أن الهوية المصرية هي الفرعونية. واعتبروا أن العروبة ولغتها والإسلام وقيمه ما هي إلا تشوهات طارئة على وجه مصر الجميل ويجب تنقيتها منه، ولكي تتم عودة المصرين شعبًا وهويةً إلى الفرعونية كان لا بد من اعتبار الرموز الإسلامية والعربية أعداءً محتلين وظالمين مجرمين ووجودهم في أرض مصر هو غزو واحتلال.
لذلك تتعدد أسباب ودوافع من يهاجم شخصية كشخصية صلاح الدين الأيوبي ما بين الهزيمة الفكرية وما بين ساع للتفرد والتميز وما بين من تشكل له محبة الناس وقناعاتهم بشخصية رمزية كصلاح الدين عائقًا أمام تحولات كبرى ومشروع خاص يمضي به فلا بد من نسف الرموز أولا والقضايا ثانيًا لتحل رموز غير الرموز وقضايا غير القضايا، كما ذكرنا سابقًا بتيار القومية المصرية.
ولربما كان نظام السيسي يرمي من خلال اظهار تلك الحالة وسواها على منابره الإعلامية إلى أهداف قصيرة المدى كالتي طرحت عن فلسطين، أو أهداف أبعد تضمن بناء ثقافة مختلفة للشعب المصري تجعل بينه وبين الفكر الإسلامي السياسي مسافات وعوائق واختلافات ويكون فراقًا بلا رجعة.
ولربما كانت هذه الحرب التي شنها إعلام السيسي على الإسلام ليست حربًا وجودية كما فعل أبناء التيار القومي المصري في السابق بل حرب تعديلٍ وتكييفٍ وتطويعٍ ترمي بهدوء وعلى المدى الطويل إلى إيجاد إسلام مصري خاص يبتعد شيئًا فشيئًا عن أمته ويكون ذلك خليطًا بين أفكارٍ عدة، وإبعاد المواطن المصري شعوريًا عن العروبة وقضايا مفصلية كفلسطين.
وبالتالي سيكون مشهد الافتراءات والتشويه للشخصيات الإسلامية الكبرى والقيم الإسلامية الراسخة مسلسلًا متكررًا ومتتابعًا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس