ترك برس
أدت الطرق والجماعات الصوفية دورًا مهمً في السياسة والمجتمع التركي منذ الحقبة العثمانية، وهي تتحدر من التصوف وتراثه الذي يعود إلى القرن الثالث الهجري، والذي بدأ بوصفه نزعات فردية تدعو إلى الزهد وكثرة العبادة، لتكون منهجًا أو طريقًا للوصول إلى الله تعالى؛ أي الوصول إلى معرفته والعلم به، حسب دراسة نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
الدراسة التي أعدّها الباحث ومدير قسم التحرير في المركز العربي "عماد قدورة"، حول انتشار السلفية في مجتمع متصوّف كتُركيا، تُشير إلى أن التصوف لا يعد مذهبًا وإنما طريقًا تروم تزكية النفس وتطهير القلب والتزام الأخلاق الحسنة انطلاقًا من الركن الثالث للدين وهو الإحسان؛ الذي يُعرَّف في الحديث الشريف بأنه: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
ووفقًا للدراسة، فإن من أهم علماء الدين الذين عُرفوا بالتصوف أبو حامد الغزالي والحلاج ورابعة العدوية ومحي الدين بن العربي وجلال الدين الرومي. وقد تحولت هذه النزعات الفردية إلى طرق عديدة عمت بلاد المسلمين، واتخذت مناهج وطرقًا مختلفة، منها من التزم القرآن والسنة، واجتهد في التأويل على أساسِهما، ومنها من ذهب بعيدًا في تبني عبادات أو عادات مُحدَثة، وهي التي يُصنّفها الدعاة السلفيون بدعًا وانحرافات قد تُخرِج أحيانًا أصحابها عن الدين.
وأما في تركيا، يضيف الباحث، فيعود التصوف فيها إلى الشيخ محمد بهاء الدين نقشبند (1318 - 1389م)، وإليه تُنسب الطريقة النقشبندية، وهي واحدة من أكبر الطرق الصوفية في العالم. وقد أدت على مر التاريخ دورًا مهمً في انتشار الإسلام. تعتمد النقشبندية في منهجها على الإرشاد الروحي عبر تلقّي "المريد" العلوم الشرعية من الشيخ أو "المرشد"، ويُشكّل هؤلاء المرشدون سلسلةً متواترةً ممتدةً تعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وترجع هذه الطريقة إلى المذهب الحنفي الذي يُثل منهج أهل الرأي والعقل في فهم القرآن والسُنة وتأويل نصوصِهما. وقد ساد هذا المنهج قرونًا طويلة لدى المسلمين بسبب قبوله لدى الأمويين والعباسيين والعثمانيين الذين وضعوا الأحناف في مركز مؤسسات الدولة ونظام القضاء؛ ما أدى إلى انتشاره على نطاق واسع، حسب الدراسة.
كما تستند النقشبندية، ومن ثم الأتراك، إلى علم الكلام والبرهان الذي تمثله "الماتريدية"، التي تُنسب إلى أبي منصور محمد الماتريدي الذي نشأ في القرن الرابع الهجري في سمرقند (ت. 332 هـ). واعتمدت الماتريدية في أسسها ونشأتِها على المذهب الحنفي فقهًا وكلامًا، حتى كانت آراء أبي حنيفة هي الأصل الذي تفرعت منه آراء الماتريدي.
وتبيّن الدراسة إلى أن الماتريدية تدعو إلى مذهب أهل الحديث والسنة بتعديلٍ يجمع بين الحديث النبوي واستخدام البرهان، فقامت على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية وتوسيع دائرة التفكير والاستنتاج في محاجَّة خصومها لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية.
ومن أبرز ما يميزها عن غيرها أنها تقول إن مصدر التلقي في النبوات هو العقل، وأن المعرفة واجبة بالعقل قبل ورود السمع. ولا يرى الماتريدي مسوغًا للتقليد، بل ذمّه وأورد الأدلة العقلية والشرعية على فساده وعلى وجوب النظر والاستدلال. وقد توسعت الماتريدية وانتشرت منذ القرن الثامن الهجري بسبب مناصرة الخلفاء العثمانيين لها، فانتشرت على امتداد الدولة العثمانية.
تعتبر النقشبندية نفسها مختلفة عن الطرق الصوفية الأخرى من حيث عودة سلسلة الانتقال الروحي في تلك الطرق إلى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، من خلال ابن عمه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الذي يعد الإمام الأول بالنسبة إلى الشيعة. وعلى العكس من ذلك، تعد النقشبندية الطريقة الصوفية الوحيدة التي تعود سلسلة الانتقال الروحي فيها إلى أبي بكر الصديق. ومن هنا، تتميز بأنها طريقة تعترف بالخلفاء الراشدين الأربعة وتحترمهم، وهي بعيدة عن الفرق الشيعية والعلوية.
وتُعد الشخصية المركزية في تطور الطريقة النقشبندية هو الشيخ أحمد السرهندي (1524 - 1624)، الذي عزّز الالتزام بالطريقة في سياق مواجهة التشيّع الصفوي، وعمل على تنظيم "الاجتهاد" وقيّده بضرورة أن يكون "ضمن حدود القرآن والسنة". كما عمل على تشجيع التصوف الإيجابي المنخرط في الحياة العامة وليس الاقتصار على الممارسات التقليدية الطقوسية للتصوف الذي ينسحب من الشؤون العامة.
وفي القرن التاسع عشر، جدّد هذا التفكير وطوره الشيخ خالد البغدادي وهو كردي يتحدر من شمال العراق، دخل النقشبندية عام 1809. وقد طور فرعًا جديدًا من الطريقة عُرفت باسم الفرع الخالدي أو "النقشبندية – الخالدية"، التي أكّدت على أفكار السرهندي، وعُرفت برفضها القوي للحكم الأجنبي أو الأفكار غير الإسلامية، متأثرة بحركة الاستعمار الأوروبي الممتدة في العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى شمال القوقاز، وطالبت بتطبيق الشريعة الإسلامية وجعل الإسلام مبدأ توجيهيًا للإصلاح.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!